دغبوص

0
2550

دغبوص شاب في العقد الثاني من العمر ، ملامحة القاسية التي تقرأها على محياه الصامت وجحوض عينيه بالبارزتين تشعرك بالرهبة والخيفه وكأنك تقف أمام ساحراً من القرون الوسطى ، ثيابة الحدكة التي اكتست باللون البني الحالك هي في الأصل كانت بيضاء فاق لونها تسر الناظرين ، مصره الذي يطويه على رأسه ملئ برائحة الورس ومخضب اللون من كثر ما يدهنه به كل مساء قبل النوم ، أما حماره فهو الوحيد الذي نال الرفاهية كما يبدو للأعيان .

حصل على خطام مزركش من الشعر وخيوط القطن متعددة الألوان ، كما خيطت بتداخل مع خيوط الزري ، عندما تتفحص عينيك حمار دغبوص وهو يقف بجانبه ، تتعجب من المشهد الذي تراه أمامك ، تشعر أحيانا بأن الحمار هو السيد ودغبوص مجرد صبي يعمل معه ، حتى الغرضة فقد زينت بأجمل الفراء من الجاعد الأبيض ، فربما دغبوص ذبح جاعدته الوحيدة ليكسي ظهر حماره ، ناهيك عن الحبال التي حيكت بإحكام وإتقان متناسق وقد قُلدت بعناية فائقة ، لوهله بسيطة يتخيل لك وأنت تقف أمام دغبوص وحماره كأنك تقف أمام فارس وفرسه .

الطابع الجميل الذي يظهر به وعليه الحمار يفوق الوصف ، يقف دغبوص بمسيلة الرحى ويتفحص بعينيه كل ما يحيط به ، حتى أنه يشعرك أحيانا انه جاء ليحصي عدد النخيل التي تحيط بمسيلة الرحى من جانب الغرب السحام والتي يسقيها فلج الحيلي والفرضة وجانب الشرق الشيات والصلان والتي يسقيها فلج بو بعره ، ما زال الحمار برفاعة يقف بجوار دغبوص وهو ينفط بشفاهه وكأنه يقول لدغبوص أما آن الأوان أن تتقدم نحوي لتخلصني من الحمل الجائر الذي على ظهري منذ فجر هذا اليوم ، لكن دغبوص كان في هذه اللحظة يحدث نفسه عن جماليات ما تشاهدة عيناه في بلده التي يزورها أول مرة بعد أن بلغ هذا السن ، فقد عاش حبيس الجبال يرعى الغنم ويجمع الحطب ، لقد عاش بين الشراج الخصبة بالبوت والنمت والزعتر والضجع الحالك الذي كان بالنسبة لدغبوص وجبة دسمه تسد جوعه الناهم الذي يتغذى على جدران معدته الفارغة إلا من الهواء الفاسد الذي يزمر فيها ، لم تعرف رجلي دغبوص معنى الحذاء أبدا ولم تشتم يوما رائحة الكريم المرطب ، عندما كانت تتيبس ويصيبها التشقق الشديد حتى تدمي ، كان يأتي ببعض من التقلية التي تركتها أمه في مله متصدعة من العيد الماضي لتقلي بها بعض وجبات الطعام ، فكانت التقلية بمثابة الفازلين المرطب لدغبوص المسكين ، عندما ترعى الأغنام كان دغبوص ينزوي تحت سمرة أو على حاكة جبل ويخرج مزماره الذي يؤنس وحدته ويشجي سمعه ويطرب خاطره ، رغم موجة الهواء الساخن الذي يلفح وجهه ، إلا أنه يعيش في سعادة مع مزماره الذي صنعه من أغصان شجرة الروغ ، فهو رفيقة وقت الضجر ، تدارك دغبوص حماره المسكين اخيرا وأخذ يفتل عقدات الحبل فتله فتله ، لم يكن لإبن الجبل دغبوص أن يطلب العون من أحد وهو ينزل رفاع الحمار ، زنده المفتول وبضعه المتين كان كفيلين على إتمام هذه المهمة ، لبن الشياه وخبز البر ومرارة العيش في كنف الجبال القاسية ، علمته معنى الصلابة والمتانة ، فكان إذا تحرك حماره قليلا صرخ عليه بصوت عالي ( اوها تباني اكللك قبدك نيه واموه ) ، ياإلاهي هل سوف يفعل ؟! ، لا أدري فملامحة القاسية تقول الكثير ، انزل كل ما على ظهر الحمار حتى السلب والغرضة ما بقى سوى الخطام الذي يقوده به .

اقترب منه احد الرجال من البلد ودار بينهم حديث قصير سأله عن العلوم والأخبار وعن الحمولة التي جاء بها من الجبل ، قال الرجل لدغبوص هل تبيعها أم تستبدلها بحاجة أخرى ترغب في إقتنائها أو حاجة من المأكل والمشرب والملبس ، فأشار دغبوص إلى بضاعته قائلا .. هذا سخبر وصخام حال برد الشتاء وناوي ابيعه ما ابادل به ، قال الرجل لدغبوص كم طالب فيه ، قال دغبوص كل جونية بريالين ، وكانت حمولة دغبوص على حماره اكثر من خمسة وعشرين جونية من الحجم المتوسط ، وافق الرجل على ان يشتريها كلها بسعر الجملة وعلى دغبوص أن يراعيه في السعر ، وافق دغبوص على عرض الرجل ، وقال له .. أنا بطيح منك خمس نئة بيسة عن قيمة كل جونية موه قلت قبلان ، فرد الرجل وهو مبتسم .. قبلان ، لقد تبسم ثغر دغبوص فلم يتوقع أن يبيع بضاعته بهذه السرعة ، بعد أن تسلم دغبوص فلوسه سأله الرجل مع من مطرح غداك ، فقال دغبوص .. أنا ما اعرف حد هنا .. تراني اول مرة انزل لبلاد ، فقال الرجل .. طيب اليوم غداك عندي ، فبتسم مرة أخرى دغبوص وهو فرح ويربت بيده على كتف الرجل ، ثم قال له .. تو أنا بعدني ما عرفتك من تكون ، فقال الرجل اسمي صالح ومعروف بين الناس بأبو زناد ، وأنت ياولدي من أسمك ، فرد دغبوص بقوة وثقه زائدة وعنفوان رجال الجبال ، أنا دغبوص ولد سليم ينكفولي ولد الركع ، أستغرب الرجل من هذا اللقب لكنه لم يعره اهتماما بالغاً ، أحضر الرجل عمال فحملوا على ظهورهم البضاعة وأعطى واحدا منهم مفتاح المخزن ولتفت نحو دغبوص واشر له أن يتبعه فتبعه هو وحماره ، اخذ يدخل الرجل بين السكيك التي تحيط بها بيوت الطين من كل جانب حتى وصل إلى بيته فأدخل دغبوص وحماره ، وأشار الرجل على راجله ليربط دغبوص بها الحمار ، ثم أشار إليه ليتبعه ، جلسا الأثنين يتبادلان الحديث قبل أن يجهز الغداء ، فقد امر الرجل زوجته بأن تقوم بتجهيزه له ولضيفه ، فأخذ كلا منهم علوم الآخر وأدرك الرجل بأن دغبوص رغم سنة إلا إنه قوي وأمين فعرض عليه أن يشتغل معه بالتجارة على ان يسافر معه إلى مسكد ، وافق دغبوص بشرط أن يذهب ليخبر أهله في الجبل ثم يعود إليه في الأسبوع القادم ، من الفرحة لم يسأل دغبوص الرجل ماذا سوف يشتغل في مسكد ، وبعد إسبوع رجع دغبوص لصالح وقال له أن جاهز هين ما تباني قبلني ، فضحك صالح ابو زناد على دغبوص وقال له هيه أنت ابو الركع برايك عاد ، ارتحل الأثنين بصحبة مجموعة من الرجال على الحمير وكثير من الحمولة التي أثقلت كاهله كل حمار ، مشت القافلة حتى وصلت إلى الشارع الذي يربط صور بمسكد وهناك كانت شاحنة العريبيا تنتظر صالح ودغبوص وحمولتهما ، قال صالح ابو زناد وهو يضع يده على كتف دغبوص .. شوف ياولد الركع هذه العريبيا بتشلنا لمسكد وأنا وأنت بنركب في الغماره عند السائق والحمولة بتكون فوق ، لكن دغبوص لم يكن مهتماً أو مصغياً لحديث صالح بالقدر الذي كانت عيناه تنظران بعجب وإستغراب للشاحنة ، فقال دغبوص مخاطباً صالح .. ابو زناد اقول هيه ذيه صنعة الكافر ، فضحك صالح وهز رأسه لدغبوص وما زال يضحك حتى ركب العريبيا وودع الرجال الذين رجعت خطاهم وحميرهم إلى الخالدية ، مسكين دغبوص كل ما رأت عيناه أو لمحت شيء يشاهده لأول مرة كان يقول .. واهيه شيه موه تو ذا عمي صالح .. موه ترايزه .. بعيد الشر .. يارب سلم يارب سلم .. ، فكان صالح يذرف الدموع من الضحك حتى كاد يغمى عليه ، أيقن صالح بأن حياة دغبوص قادمة نحو تغيير جذري قد ينسى في يوم ما شيئاً اسمه الجبل وربما لم يعترف فيه في السنوات القادمة بعد أن يذق معنى عيشة مسكد ، ويحتك بالمدن ومن فيها ، فقد كان يقرأ كثيرا من الكلمات الصامته التي كان يحكيها وجه دغبوص الذي تملاءه الغرابة والدهشة ، وخاصة إذا عرف شيء اسمه الكنديشن والدوشك ابو قطن ، أو ذاق حلاوة الإيسكريم على العربة ابو سيكل التي تطوف كل صباح سكيك وحواري مسكد ، بينما كان صالح يسرح بعيدا بمخيلته ، كان دغبوص يراقب كل شيء جميل يلفت نظره وهو راكب العريبيا ، حتى إنه كان يرفع رأسه ويشم الهواء بقوة وكأنه يشم عطر عروسة في ليلة الدخلة .

أخرج دغبوص مزماره وبدأ في النفخ فيه وتحريك أنامله الخشنة على فتحاته فهيض مسامع صالح والسائق فكانا مصغيين إلى كل نغمه ، ياترى هل سيبقى دغبوص دغبوصاً أم تراه سوف يغير حتى اسمه وكنيته .. ويرمي بمزماره ليعزف على الجيتار أغنية أجنبية ؟!

بقلم / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي