عماني …وكفى

0
1290

قبل أن أخط حرفاً قلَّبت الصورة مراراً وتكرارا عَلِّي اكتشف سر انتشارها العجيب وتصدرها للكثير من حالات الواتس اب حيث كانت لمسن عماني يحتض تيساً جاء ليبيعه ويبدو من قسمات وجهه ارتباطه العاطفي وتعلقه الشديد به ومما ساهم في انتشار الصورة هذا الانتشار العجيب إرفاق أبيات شعرية لأبي حسن علي الفالي الأديب قالها عندما احتاج لبيع نسخة عزيزة عليه من كتاب الجمهرة لابن دريد ووجد من اشتراها هذه الأبيات مكتوبة داخل النسخة فأعاد النسخة لصاحبها دون مقابل وكان مطلعها:

أنست بها عشرين حولا وبعتها
لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها
ولو خلدتني في السجون ديوني

يبدو لي أن السر يكمن في الكم الهائل من العواطف التي احتوتها تلك الصورة فهذا الرجل المسن الذي أكل منه الزمان وشرب تعلق بتلك البهيمة العجماء رحمة بها فملامحه تدل على أنه يودع فلذة كبده لا دابة جاء لبيعها.

والمدقق في المشهد يكاد يقرأ كلاماً وتوصية واعتذاراً من إنسان إلى دابة كانت الأبيات خير تعليق لكلام الرجل إذا يبدو وكأنه يعتذر للتيس على تفريطه به فهو لولا الحاجة لما أقدم على بيعه.

تكاد تقرأ الألم في عين التيس إذ تفيض حزناً على فراق صاحبه الرحيم فيقول له بعين دامعة وقلب منكسر ” يا صاحبي لا تبتئس فلا ضغينة بيننا إنها سنة الحياة وهي مشيئة الله ماضية فينا لا محالة، وأنا راضٍ بقسمة الله وقدره ولا يؤلمني إلا فراق رجل طيب مثلك”.

كنت قد كتبت سابقاً مقالاً بعنوان (كريمة رغم بؤسها) تحدثت فيه عن النخلة وتعلق العماني بها، وحنوه عليها وهذه الصورة جاءت خير دليل على الطيبة والرحمة والحنو التي يمتاز بها هذا الشعب العظيم الذي شمل بكرم أخلاقه وطيبته حتى الحيوانات والجماد هذا الشعب الذي تمثل سيرة المصطفى عليه وآله أفضل صلاة وأزكى تسليم الذي حتى الجذع حن له .

هذه الدواب العجماء التي نظن أنها لا تفهم ولا تدرك هي تتعلق بمن يحبها ولنا في قصيدة عنترة في حواره مع جواده خير دليل حيث يقول:
فازورَّ من وقع القنا بلبانه
وشكى إلي بعبرة وتحمحمِ
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي

ولأثبت لك صحة ما ذهبت إليه اسأل أي مربٍ للإبل عن تعلقها بأصحابها وحبهم الشديد لها وإدمانهم رفقتها، وستسمع من قصصهم الشيء العجيب.

هذه الصورة التي التقطها مصور بارع وددت لو عرفت اسمه لأشكره على نجاحه في نقل مشاعر ذلك الرجل المكلوم، وقد سارعت بعض مؤسسات القطاع الخاص للبحث عن الرجل المسن لتكريمه والذي قدم نموذجاً لأخلاق شعب يثبت لنا على الدوام مدى رسوخ القيم الإنسانية فيه وهذا النموذج ليس إلا غيض من فيض.

صالح بن خليفة القرني