الإسلام الشمولي.. ومعادلة الفرد

0
2206

قام بعض الزملاء بإشراكنا بحوار دار بين القائد الروحي لبوذية التبت “تتزين جياتسوا” (دلاي لاما)، وعالم لاهوتي مسيحي لاتيني، في مؤتمر جمع علماء أديان مختلفين، عندما وجه العالم اللاهوتي سؤاله لدلاي لاما ” ما أفضل الأديان من وجهة ونظرك؟! كان جوابه ” العقيدة الأفضل هي تلك التي تجعلك شخصا أفضل، وتجعلك أقرب الى صورة الله في الأرض” وجاءت خلاصة السارد “أن الغاية العمل الصالح، والأديان والعقائد وسيلة “..

هذا هو الإسلام عينه قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقبل البشر..العملُ ضمن سنن هذا الكون دون إفساد فيه أو خلخلة، العملَ الصالح المرضي المقر بالفطر، فمع اختلاف الشرائع، واختلاف صلواتها وتفاصيل عباداتها، إلا أن جوهرها واحد، وهو الصلاح والإصلاح لهذه الارض..لذلك كان الصالحون موجودين منذ بدأ البشرية، قبل الديانات السماوية بأمد بعيد، وهم من سأل إبراهيم عليه السلام الله أن يلحقه بهم ( وألحقني بالصالحين)، واللاحق يأتي بعد السابق.

هنا استدعيت قصة طريفة من الذاكرة تصُب في ذات السياق أوردها مختصرا؛

وأنا طالب هندسة سنة ٢٠٠٠-٢٠٠١ في جامعة شيفيلد ببريطانيا

دخلَ عليَّ طالبٌ عربي مغربي متحمس بحقيبته خلفَ ظهره وطولِه الممشوق وأنا في قاعة الكمبيوتر وبدشداشتي البيضاء يومها -وكان ذلك فيما يظهر عنده رمزَ من يرغب جداله يومئذ- فسألني بروح التحدي والاعتراض؛
– كيف يُعقَلُ لمليارٍ من البشر (يعني المسلمين) أن يكونوا أهل الجنة، وخمسةِ ملياراتٍ (يعني غيرهم) أن يكونوا من اهل النار؟!

قلت له؛ بل وأعجبُ من ذلك… فحتى المليارُ ليس جميعُه من أهل الجنة!

ففغر فاه “وفَقَّمَ” مشدوها، وأنا أنظرُ إليه بعينين باردتين..

ثم أدركته وقلت له -قبل أن تخرج عيناه الجاحظتان من محجريهما-: ولا الخمسةُ مليارات جميعهم من أهل النار!

فانحبس وذهب حماسه التجادلي وألقى السمع بخضوع…وكأنه يدعوني للاسترسال..

فقلت له: بيانُ ذلك في قوله سبحانه؛
– من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها..كل نفس بما كسبت رهينة (المسؤولية الفردية في العمل الدنيوي)
– لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (المرجعية التكليفية الفردية)
– وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (العودة والمحاسبة الفردية يوم القيام)
– إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون… (الإحاطة الجمعية للفرد المسلم في مختلف الأديان بتحقيق المعاني الثلاثة في الآية (الإيمان بالله- الإيمان باليوم الآخر- العمل الصالح)…والصابئون هنا ما عدا هؤلاء من أفراد الأديان المختلفة ممن يشاركونهم في الإيمان بالله ويوم البعث ويعملون الصالح حسب ما قامت عليهم به الحجة من فطرة وتعاليم دينية تحث وتزكي نحو الغاية الكبرى، وهو العمل الصالح وعدم الإفساد.

إن في هذا بيانا جليا لموقف الله سبحانه من تشاحنات البشر المؤسسة على أهويتهم ومصالحهم الفئوية والعرقية والدينية، فما قامت حجةٌ ما على إنسان في عقيدة قويمة توصله للغاية من وجوده في الأرض (إثبات العمل الصالح وإعمار الارض) فقد قامت عليه، ومن وصلته عقيدةٌ لا تحقق هذه الغاية فحجته فطرته التي فطره الله عليها، ولا حجةَ لتلك العقيدة عليه، ولن تنفعه المعذرة بها عند الله وقد أودع سبحانه فيه عقلا وبصراً ونظراً وفطرة، والإسلام (العقيدة الأزلية للعالم) مخزون في كتاب الله الخاتم، وفِي رسوله المصدق له، ومن قامت عليه الحجة بهما فلا يجوز له التنازل عنهما، أما الكتاب فبيانه وعدله ظاهر، ولا تناقضَ بين آياته ولا دعوى لعنف خارجَ سياقاته (الحرب مثلا)، وأما ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيُعْرَضُ على كتاب الله، فما وافقه فمنه، وما خالفه فليس منه، وهو توجيه النبي عليه السلام في إحدى الروايات عنه، وأما ما عداهما (أحاديثُ أو آراءُ رجال واجتهاداتُهم) فمرجعه القاعدة والمبادئ العامة، فما حقق الغايةَ (العمل الصالح) واستقام على الإيمان باليوم الآخر والبعث (بعيدا عن الأهوية والرياء والمصلحة الخاصة)، وأفاد الإنسانية ولازم الفطرة السليمة فذلك محمود، وأما ما لم يُوَّصِلْ لذلك، ومُؤداه فتنةُ الناس، وإسالة الدماء، وهلاك الحرث والنسل، وذهاب الأمان للعالمين فذلك لا خير فيه ولا حجة..

أخيرا قد نجد في قوله سبحانه: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) صورة ورائية زمنية لحال أولاءِ من أهل الجنة ووضعهم في الدنيا…الغل اتجاه بعضهم فيها حبسا في القلب دون ترجمة لعمل مفسد اتجاه بعضهم، ومع بقاءهم على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ضمن محيطهم دينا او مذهبا بما قامت به الحجة عليهم فيها، فإن في هذه الآية راحة كبيرة للناس كافة في التعاطي وإشكالات ما يقع اليوم بين الحضارات المختلفة، ونورا للتائهين في غياهب الظلمات، ظلمات ما ورد عن الناس في بعضهم، مما أشكل عليهم دينهم وعقيدتهم، فانقلبوا تائهين، يترددون بين الإلحاد واللادينية او الانقلاب رأسا على دينهم، بكل ما فيه، وكان الأولى منهم قراءتَه مباشرةً بعيدا عن مناظير البشر، وسيجدون فيه ما يشبع الإنسان داخلهم، ويقنعه، ويريح صدره، لينطلق بروح عالية، يعمر الأرض، ويصلح ويعين الناس والعالمين…

مع اعتقادنا الجازم بهيمنة الدين الاسلامي كمنهج قامت علينا حجته على باقي الأديان والشرائع في الأرض -والهيمنةُ هنا تعني المرجعيةَ والصحةَ المطلقة له فيما اختلف معه عليه دينٌ آخر، وربما ذات الإيمان للآخر من الأديان الأخرى في دينهم- إلا أنه يبقى قيام الحجة على الأفراد والأعيان من شتى الأديان والأعراق متفاوتة، لا يعلمها إلا الله والفرد، وليس الله بظلام للعبيد في ذلك قولا واحدا، ولو انتسبوا ظاهرا لغير دين الاسلام (الاصطلاحي)، فالله عالم بما قام على الفرد من حجة فيه، وهو حسيبه، من ثم عظَّم الله قتل النفس فجعلها كقتل الناس جميعا، ودعى الى إحياءها، لأن الأنفس عند الله متساوية مهما تباينت خلفياتها الدينية والعرقية، وما بقي فالله عالم به وشهيد.

رحمة الله على والدي رحمة واسعة فقد زرع فينا مباديء لن تنفك، تدعو الى الرحمة والألفة والإنسانية والإسلام العتيق، حتى كان آخرَ كتبه رحمه الله الفقهية كتابه ” الوحدة الإسلامية”، بما يحمله هذا العنوان من رسالة توحيد وتوحد للمسلمين حول دينهم وقيمه، ويمكن أن تتسع دائرة هذه الدعوة لتشير للإسلام الأكبر بمعناه الشمولي الذي يعنى به جميع البشر، بما كان يأتي والدنا ويذر من صور إنسانية عالية، وحدت الإنسان في أعيننا، وثبتت في قلوبنا حقه خلال كتاب الله سبحانه وفعل رسولها صلى الله عليه وسلم الموافق له إلى يوم الدين…

عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي