أمي عشق لن ينتهي

0
1603

قصة قصيرة بقلم/ يعقوب بن راشد بن سالم السعدي

بين أفنان الضاحية وسواقيها وخرير ماؤها المنساب تترا وأحيانا دفعا ، بين الروابي الخضر والباسقات السمر والطلع النضيد ، عند الشرفة القديمة المطلة على زفنة وقر الحناء تهادا لي بأن هناك من يرقد تحت الحناءة ، لم يكن يظهر من جسده سوى وزاره البريسم وفانيلته البيضاء المخضبة بالورس والزعفران .

تقدمت منه وأنا ازيح باب الزفنة من مكانه وأحشر جسدي بين ثناياه وإذا به يلتفت نحوي بشدة وكأني افزعته ، لكنه ما زال على هيئته ورقدته ، لمست رأسه بيدي اليسرى وكلي فضول ما هذا الشيء الذي غطا به شعر رأسه ، وحين أقتربت بأصابع يدي نحو أنفي اتضح إنه دهن رأسه بورق السدر اليابس بعد أن اخله بالماء وعجنه ليصبح ياساً ، تعجبت من شاب في الثلاثينيات من العمر يقوم بأفعال نساء طاعنات في السن ، كل هذه الأفعال لم يعد يفعلها الآن أحد ، فالشامبو والعطور في المتناول ويسيره الإستعمال ، سألته عن سر إبتعاده عنا وخلوته هذه بهذا المكان وكل هذا الذي يفعله ، خشيت في لحظة أن يكون مثلي ، فداعبته مازحاً بهذه العبارة عن المثليين ، لكنه قهقه لبرهة وجيزة ثم وصفني بالمجنون

قال هذا المكان يذكرني بأمي ، فقد كان هنا منذ عشر سنوات مضت عريش وخيمة من سعف النخيل ، كانت أمي تجلس في نفس مكاني هذا وتضع ما أضع الآن ، لقد أشتقت لها كثيرا منذ رحلت ، رحل معها كل شيء جميل في حياتي ، فأحببت أن استحضر أفعالها حتى تتصل روحي بروحها .

فضحكت وقلت اتُؤمن بإتصال الأرواح الميته بالحية ، قال وهو يبتسب ثم تفيض عيناه بالدمع دون حتى أن يرمش بعينيه ، إنني أشعر بها في كل جانب من جنبات هذا المكان ، كما أشعر بيدها كلما لمست غصن شجرة من أغصان الضاحية ، حتى النخيل اذا ما عانقتها أشعر بحرارة جسدها ولطفه وحنانه ، أمي في كل مكان ، أتصدق إنني عندما أشتم رائحة تراب الضاحية أشم رائحة أمي ، وكأن رجليها الكريمتين قد داست على حفنة التراب الآن ، نعم الآن فما زال التراب ساخنً ، أعلم إنك تخالني مجنون أو مريض نفسي ، لكن ما أراه وما أحس به لا أحد يصدقة أو يفهمه أو يحس به إلا أنا وأمي والضاحية ، هنا أدركت بأن الفقد يساوي العشق إذا ما أغرمت بأحد

غرامه بأمه ليس غراماً عادياُ قد ينسيه الزمان إياه ، لكنه غرام سكن كل شيئاً فيه حتى ضاحيته التي خلفتها له أمه ، الآن فقط اعرف لماذا لم يتزوج حتى الآن رغم إلحاح أهله عليه ، لحظة ما مرت بي وأنا جالس بقربه وهو ممدد على ظهره وعيناه تنظران ناحية البرنية الباسقة ، إنه يتنفس الضاحية كما هي تتنفسه ، كل حفيف أوراق الأشجار أو خوص زور النخيل هو نفس هواء يدخل من أنف أمه ليسكن رئتيه ، يالله ما هذه العلاقة الوطيدة التي خلقت كل هذا التواصل الروحاني بينه وبين الضاحية وأمه التي تعيش وتسكن في كل جنبات الضاحية

قطع حبل أفكاري وسرحاني كلامه ، أتعلم من زرع هذه الحناءة ، إنها أمي ، نعم أمي ، فمد يده نحو عودها وحناهُ ناحيته ثم احتضنه واجهش بالبكاء ، فسمعت أناته وصوت مكتوم مخنوق من العبرة .. أمي ، أحسست في تلك الحظة بأني لن أصل لهذا الإخلاص من الحب والإشتياق إلى أمي بالقدر الذي يعيشه ، لكنه أشعل في داخلي شمعة ينادي علي ضوءها بأن هناك أعلى السرطحه ترقد أمي وأمه ، حملت نفسي ودموع عيني المنهمرة تسابق أدمعه التي روت تربة الضاحية ، خرجتَ متجها لازور قبر أمي وبيدي عود ريحان قطفته من الضاحية لأضعه على ضريحها ، ليس هناك ما أُقدمه لأمي سوى عود الريحان ودعاء من قلب صادق لأم طواها الفراق ، لكنه كان وما زال باراً بأمه أكثر من أي رجل عرفته في حياتي أو عرفه غيري .

هنيئاً لك هذا العشق وهذا البر ، هكذا كنت أردد هذه الكلمات وأنا تاركاً الضاحية متجهاً إلى قبر أمي ، فأي درس هذا الذي علمني إياه بعد فوات الأوان ،نعم لم أكن عاقً ولكن أيضا لم أكن محسناً بقدره بعد فراقها ، وضعت عود الريحان على قبرها وقلت بصوت سمعه كل الأموات عيد سعيد ياأمي .