أعلم بأن كلمة “استراتيجية” أصبحت من الكلمات والمفاهيم التي تثير تحفظ الكثيرين منا. فكم سمعنا عن استراتيجيات ولم نرى من وراءها الا القليل من الإنجاز والكثير من الإحباط. وكم تتغنى جهاتنا الحكومية بالاستراتيجيات،
فأصبح لكل وزارة تقريبا استراتيجية خاصة بها، فهناك استراتيجية للتعليم وأخرى للصحة وللنقل وللزراعة والسياحة، ناهيك طبعا عن الاستراتيجية الأكبر للبلد باسم رؤية 2020 والاستراتيجية القادمة والأهم والتي يتم التجهيز لها بتأني غريب “رؤية 2040”. ليس ذلك فحسب، فلدينا اليوم مجلس أعلى للتخطيط يُعنى بهذه الاستراتيجيات الوطنية وأصبح حديث المسؤولين في الندوات والمؤتمرات هو ضرورة وضع الاستراتيجيات لمختلف الأعمال. حتى مشاريعنا الأقل حجما كمشروع صندوق الرفد مثلا له استراتيجية للعمل، وهناك استراتيجية للتوظيف خاصة بالباحثين عن عمل وحتى البحوث العلمية والأكاديمية لم تبتعد عن هذا التوجه فأصبحت توصف أحيانا بالاستراتيجية بحسب حجمها ومدتها. ويستمر مسلسل الاستراتيجيات للأسف دون أن نعي صغارا وكبارا جدوى وأبعاد هذا المصطلح ومضامينه، حتى بدأنا نرى في كلمة “استراتيجية” ما نراه عادة في مصطلح “لجنة”، وهو المصطلح الإداري الذي عادة ما يظهر التنظيم والتركيز ويخفي داخله قتل للعمل وتأخيره.
لا يخفى على أحد أهمية التخطيط الاستراتيجي على الجانب الفردي والاجتماعي والمؤسسي، فأكثر ما ينقصنا اليوم في السلطنة هو مهارة التخطيط بين المواطنين بشكل عام وبين المسؤولين وأصحاب القرار بشكل خاص. فما أكثر ما نختلف على مصطلحي الرؤية والمهمة حتى أصبحنا نستعمل كلمة استراتيجية بمعنى خطة وشتان بين المصطلحين. ليس ذلك بمستغرب فلم نتعلم التخطيط الاستراتيجي في مدارسنا ولم نتدرب عليه في حياتنا إلا من خلال خطط الدولة الخمسية وهي خطط في مجملها قصيرة الأمد لم نشارك في وضعها. فأفضلنا اليوم يعتقد بأن الاستراتيجية ما هي إلا تحديد للرؤية والمهمة ومجموعة الأهداف الواجب تحقيقها بشكل قابل للقياس ومن بعد ذلك وضع الخطة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وما هذا كله إلا أدوات الاستراتيجية وليست الاستراتيجية بالنفس. يقول كين فافارو أحد كبار شركاء مجموعة (Strategy&) إن على المؤسسات اليوم أن تحدد أولا قطاعات العمل التي ترغب في دخولها وبعد ذلك تخطط في كيفية الوصول إلى الامتياز فيها. يمكن أن يعمم هذا أيضا على مستوى الدول، فعليها أولا أن تحدد وتختار مجموعة القطاعات التي تريد أن تركز عليها بشكل تكاملي لتحقيق التنافسية العالمية والإقليمية بدلا من تشتيت الجهود بين جميع القطاعات الاقتصادية. للأسف نجد من الصعب أن نرى في السلطنة هذا التكامل في الرؤى والأهداف بين مختلف مشاريعنا الاستراتيجية. انظر مثلا إلى مشاريعنا الصناعية ومشاريعنا في قطاع السياحة وقطاعات الثروة السمكية والصحة والتعليم والنقل والاتصالات؟ كل منها للأسف يعمل بشكل كبير بمعزل عن الآخر وهو أساس مشكلة العمل البيني التي نعرفها ونحس بها جميعا. قد يقول قائل بأن جميعها ينصب في تنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على النفط وللأسف هذا أيضا هو الفكر المتواضع الذي يسيطر على أغلبنا. فتنوع مصادر الدخل لا يعني التشتت وإهدار الموارد بل يهدف للتركيز بتحديد القطاعات التي يمكن أن تساعدنا في تقليل الاعتماد على قطاع النفط والغاز، وأركز هنا على كلمة “تحديد” بدلا من كلمة “تنويع”. فمن السذاجة اليوم أن نعتقد بأننا يمكن أن ننجح في تطوير جميع القطاعات بشكل تنافسي. نعم هناك حدود دنيا علينا معرفتها والعمل على إتمامها لجميع القطاعات خصوصا تلك التي تمس البنية الأساسية للبلاد ولكن علينا فقط أن نهدف لتحقيق التنافسية العالمية أو الإقليمية في بعض هذه القطاعات بعد تحليل مقومات البلد ومواطن تميزها بشكل يتكامل مع المشاريع الإقليمية ويراعي خصوصيتها.
في رأيي الخاص أجد قطاعي السياحة والغذاء من أكبر القطاعات الواعدة في السلطنة والتي يمكن أن تحقق لنا الاستدامة الاقتصادية المنشودة إذا ما أجدنا عملية لتخطيط. ففي السياحة يمكننا أن نركز على السياحة العائلية للدول العربية وسياحة الرحلات البحرية والبرية. فعماننا الحبيبة حباها الله بمواسم ومناطق سياحية على مدار العام، لم تستغل الا قليلا. وفي الغذاء يمكننا أن نركز على الأغذية العضوية كخيار صحي ليس فقط لدول المنطقة بل لدول العالم اجمع. ليس المقصود هنا أن نرجع بالبلاد إلى زمن البيادير (المزارعين) والعمل في الأرض بقدر ما نهدف لاختيار القطاعات التي تناسب طبيعتنا واحتياجاتنا. ألا تعتبر الزراعة والثروة السمكية هي أصل العمل في البلاد من قديم الأزل إلى يومنا هذا؟ ألا نرى ارتباط العماني الكبير بالأرض وتفانيه في خدمتها كجزء من موروثنا الأصيل، فلماذا نحاول أن نلبسه لباسا آخر؟ لطالما كانت عمان ومازالت بشكل خجول اليوم بلدا زراعية تمتد جذورها عميقا في التاريخ فلم لا نسعى لجعلها سلة الغذاء العضوي للدول العربية والإسلامية؟ يشاركني في هذا العديد من أخصائيي قسم المحاصيل بكلية الزراعة بالجامعة والذي يرون بأن الغذاء العضوي الخالي من الكيماويات والهرمونات الصناعية يشكل قطاعا واعدا في العالم ونقصد هنا ليس فقط في الخضراوات والفواكه بل أيضا في استزراع أنواع الأغذية البحرية وصناعة اللحوم والدواجن بشكل صحي، ولنا في بعض المزارع الخاصة بالسلطنة تجربة في هذا الشأن. انظر إلى المساحات الزراعية الشاسعة في محافظات السلطنة والتي تختلف في طبيعتها ومناخها بشكل يجعلها مؤهلة لزراعة صنوف مختلفة من الفواكه والخضروات. وانظر إلى سواحلنا الممتدة التي يمكن أن تشكل لنا موردا مائيا لهذه المشاريع بالإضافة إلى صنوف الأغذية البحرية. ألا يشكل ذلك كسبا مزدوجا بتحقيقنا للتنافسية الدولية في قطاع واعد لا يضر بالبيئة مع ضمان البيئة الصحية والغذاء السليم لنا ولأجيالنا القادمة؟ ألا نشتكي اليوم من التلوث الصناعي في بعض مناطقنا المحلية وبالكم الهائل من أنواع الغش التجاري وكميات الفيتامينات والكيماويات الضارة التي تأتينا في مختلف مأكولاتنا المستوردة؟ ألا يحتاج العالم اجمع وليس فقط دول الخليج إلى بديل غذائي صحي مع تزايد الأمراض وانتشار الوعي بين الناس بمخاطر الأطعمة المصنعة مختبريا؟ فلماذا إذا لا نسعى لحيازة الدنيا بحذافيرها بتحقيق الاكتفاء الغذائي الصحي والبيئة السليمة للعيش الكريم تصديقا لقول الحبيب المصطفى (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
د. حافظ بن إبراهيم الشحي