خيلي المصون .. وداعا

0
2084

حلمت منذ ما كنت صغيرا وحتى قبل أن أعرف ما معنى البلوغ ، بأن أسافر إلى بلاد الغرب وأستمتع بجمال بلدانهم وشوارعهم ومبانيهم وحدائقهم وشطآنهم وجبالهم وسهولهم وكل شيء كنت أشاهده في التلفاز ويجذبني إلى رؤيته ، وعندما أصبحت يافعا صلبا وبدأ جسدي يميل إلى الطبيعة ، أمسى فكري يشتاق إلى السفر إلى بلدانهم الغربية أكثر من السابق ، فلم أعد أحتمل النظر إلى الجمال الذي كنت أفتقده هنا في مشاهداتي اليومية الذي كثيرا ما يشعرني بالجفاف العاطفي والرجعية القومية في التعايش السلمي بين الجنسين في أي وقت وفي أي مكان ، لقد تبلورت الحرية في ذهني من خلال المفاهيم التي كنت أتلقاها من التلفاز والسينما ، فلم يكن في برامجنا المتلفزة تلك الأيام ما يصد هذا الهوس بالجمال الغربي .

فلم تكن البرامج الدينية التوعوية أو الصحية مثارة بالطريقة التي توضح لي ما معنى مفهوم الحرية المطلقة أو دونها .

سافرت وتنزهت في كل البساتين فلم أرى بستان به ثمرة إلا جنيته ولم أرى خيل تحتاج إلى ترويض إلا روضتها ، كما رقصت على مسارحهم رقصة البالية في أوبرا البجع ، والأجمل من هذا كله أن طعم الخوخ الرماني العنبي لديهم أشهى وألذ بكثير من ما عندنا  فكم كنت أسبح في أنهارهم ليل نهار وأرتمي فوق أوديتهم ساجدا أقبل العيون والأزهار ، وعندما قرروا أصحابي العودة إلى الديار .

أتذكر إنني أمسكت بباب الفندق وكرسي صالة المطار بقوة وهم يجروني جرا نحو الطائرة ، وكنت أرفض العودة وأترك النعيم لغيري ، أحسست بأني أغادر الجنة إلى النار ، أحسست بأني أغادر الخضرة إلى الغبرة ، أحسست بأني أغادر الأنهار إلى الصحاري القفار ، آآآآه ليتني ولدت هنا يالا العار .
مرت السنين وأصبح الحلم الغربي لا يفارقني كل سنة ، الناس تذهب إلى العمرة والحج ، وأنا أذهب لأطوف بالأقمار وأقيم الليل وارقد النهار .

لكن للقدر معي موعدا أخر له معنى ومغنى لم يكن يوما في حلمي ولن يطرق ذاكرتي أو مخيلتي ، أحببتها وهي تدرج كالحمامة على شاطئ البحر عصر الخميس ، عباءتها السوداء المطرزة يتلاعب بها نسيم البحر فيظهر قوامها الممشوق الذي أحتضنه سروال الجنز ، وتسألت في نفسي لماذا العباءة والشعر الغجري المسدول تداعب خصلاته نسيم البحر .

كما داعب قلبي المفطور حزنا عليك بانك لستي رفيقتي حتى الساعة ، اقتربت منها دون خجل او تردد فأنا الخبير في خيول الغرب لم تعد خيول العرب ترهبني ، قلت في وجداني وأنا أقترب منها لن يكون لأحدا غيري أن يحظا بشرف النزهة معها أو يكبح جماحها ، سلمت فكانت غائبتي التي أبحث عنها سنين ، فقد سقط قلبي من بين أضلعي إلى أخمص قداماي يرتشف أنفاسه الأخيرة قبل الإحتضار ، تبا للغرب وخيولهم .. هكذا قلت وأن أنظر للوهلة الأولى إلى محياها ، لم يسبق لي أن نظرت عيناي حسن كهذا ولا قوام كهذا ولا تسبيل عينان كهاتين العينين .

دار الحديث مطولا بين شد وجذب وخلاف وإتفاق حتى روضت الشرسة التي لم تكن هي تضن للحظة بأن تروض ، كانت من نصيبي وكنت حبها الأول ، أصبحت معشوقها وأصبحت معشوقتي الأولى ، أمسيت لي نعيما وأمسيت لها كل النعيم ، حتى نسيت الغرب وكل ما فيه وأحببت عروبتي وأقبرت حلمي الغربي إلى الأبد ، فأيقظت الحلم العربي فيني وفيها فستيقظ ، كان عمري معها خريف لا يتوقف فيه المطر ، كم كنت أشتاق لها وكم كانت تشتاق لي ، فلم يعد في هذه الدنيا شيئا يفرقنا ويبعدنا ، تأخر الإنجاب لدينا وفضلت في نفسي أن أبادر دون علمها بالفحوصات الطبية لعلني كنت السبب فلا أجرحها ولا أحرجها ، كم كنت أتمنى أنني لم أفكر في هكذا أمر وبقيت على ما أنا عليه أنتظر مثلما أنتظر غيري سنوات ، لكن حتى السنوات خاصمتني ، عدت إلى البيت منهار ، لا قدرة على قواي أن تحملني على نقل خطواتي المحطمة ، لأول مرة شعرت بأن العالم رغم أتساعه أصبح صغيرا للغاية وكأنه وكر ، فكانت نهاية الوداع الحزين المؤلم ، فكرت مرارا وتكرارا ماذا عساي أقول لجميلتي التي أهدتني كل الفرح والسعادة ، كيف أعيش معها ما تبقى من أيامي السوداء تحت سقفا واحد وأنا يعتصرني الحزن قبل أن يعتصرني الألم ، أيامي معدودة ولم أشاء أن تكون محبوبتي يوما ترتدي الأسود على جسدها الذي سهرت أعتني فيه في كل مكان من أماكن غرفتنا التي شهدت على كل شهقة وآنين ورجفه ، لا يمكن أن أسقي حبيبتي رحيق العذاب بعد رحيلي من هذا العالم الذي عشقته منذ الطفولة ، لكن القدر قد قال كلمته الفاصلة في جسدي الذي سوف يميل إلى الهدوء المدقع بعد مدة وجيزة من الزمن القادم ، بدون سبب رجعت في اليوم الثاني وأنا أحمل في يدي ورقة طلاق ، أهديتها إياها دون كلمة فقد توقف الكلام في فمي وماتت الأحرف على مشارف شفتي وعجز لساني عن النطق ، ذرفت الدموع وهي تتوسلني بأن أتحدث عن سبب ورقة الطلاق ، حملت منديل كان على طاولة جانبية كنا نضع عليها العصير ، ومددت بيدي إليها ، أخذت المنديل وورقة الطلاق وحقيبة ملابسها وهي تودعني والدموع سيل منهمر يغرس خنجرة في كبدي التالف المتليف ، لم أستطع أن أرفع رأسي وأضع عيني بعينيها ، مخافة أن يخونني ضعفي وشوقي إليها ، فترجع وترتمي بحضني .

قتلت كل الرغبات الجامحة التي تناديني أن احتضنها أو أقبلها قد تكون أخر الأحضان والقبلات ، وقفت على عتبة الباب ونظرت إلي وكأنها تقول انطق أيها المتحجر ولو بحرف ، لملم شتات قلبي الذي حطمته وروحي التي بعثرتها ، خرجت ولم تغلق الباب خلفها ظننا منها إني ربما ألحق بها قبل أن تستقل سيارتها ، فقد كانت تتحرك ببطء وتنظر بين الفينة والأخرى إلى الخلف لترمقني بنظرة تعطف توغر الخناجر في صدري المجروح وقلبي النازف رغما عنه ، لم أكن أجرؤ على إيقافها وفضلت الجلوس صامت حتى لا أعذبها في قادم الأيام ، أنفجرت باكيا بعد رحيلها ، وما نفع البكاء والفؤاد محطما ، وعندما رفعت رأسي شاهدت كأس ماء خالي قد طبعت عليه بصمت شفتها ، أخذت الكأس إلى غرفة نومي ووضعته على المنضدة الجانبية قرب الأباجورة ، أضأت الأباجورة فبرزت لي بصمت شفتها بوضوح تام ، تابعت النظر إلى الكأس حتى صباح اليوم الثاني ، أعلم إنني تسببت لها بجرح غائر ، لكني أيضا أعلم بأن فراقي من حياتها لن يكون سهلا عليها ، ولكن وجودها بالقرب مني سوف يزيدها حزنا ومعاناة ، لذا فضلت أن تكرهني فيكون وقع موتي عليها خفيف ، سامحيني حبيبتي فأنا أكتب مذكراتي وأنا على فراش الموت أرتشف أنفاسي الأخيرة المتهالكة ، كما كنت أرتشف رمق لعابك ، لكنني الآن أرشفه نزعا للروح بينما كنت أرشفه لتحيا روحي بين شفاهك ، وداعا ياحب سكن ضلوعي ووجداني ، أعلمي أن كل نساء الدنيا بما فيهن نساء الغرب الممشوقات لم يكن في عذوبتك وجمالك ، أنت من علمني ان حب العربية عبادة وحب غيرها إلحاد ، لقد بدء الحب حلما وإنتهى بي حلمي بعيدا عن حضنك الدافئ ، إنتهى على سرير المستشفى البارد .

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي