من وهج الذكريات

0
1155

بقلم / ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

افترش نعله ليجلس عليها ناصبًا إحدى قدميه على نعل وقد وسد النعل اليسرى رجله الأخرى واتكأ على منسأته في مقبرة فنجا وكأني أراه الآن وقد مضى على هذه الصحبة العظيمة عقدان من الزمان

أقبل الشيخ العلامة سعيد بن حمد الحارثي في حلته البيضاء كعادته البهية ولون بياض الدشداشة العمانية كلون لحيتهِ الكثة النورانية وعمامته البيضاء السحابية

ونور وجهه الأبيض الذي يشع وسط تلك الجموع وخنجره البراق نور على نور وهيبة ربانية أشرق في حناياها القرآن وانعكس عليها نور العلم والإيمان

وقد أشرف على غسل الميت وذلك امتثالًا لتلك الوصية التي أوصى بها الرجل العامري المعمر الذي وصلنا نبأ وفاته بعد صلاة المغرب رحمه الله

وكان الشيخ حينها في مجلس ذكر وحلقة قرآن بجامع الرضا وقد شرع هو ومن معه بتلاوة السور المنجيات ليلة الجمعة الزكية

اقتربت من الشيخ الجليل وأخبرته بخبر وفاة صاحبه الرجل العامري المعمر فقال إنا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله يكاد لا يمر يوم إلا ويحادثني بالهاتف وذلك كل صباح

لقد كان ضليعًا بالطب والأعشاب ولا توجد عشبة من الأعشاب إلا ويعلم خصائصها ومنافعها للإنسان والعلة التي يمكن أن تداويها وقد تجاوز عمره المائة عام بل زاد عليها

انطلقنا بصحبة الشيخ أنا وشقيقي الأكبر خالد إلى فنجا و في الطريق طلب مني الشيخ الاتصال بمنزله كي يعلم أهله لكي لا يستبطئوه في العودة للمنزل ففعلت فأخبرهم وهناك ينتظرنا الشيخ عبدالعزيز بن حمود السيابي الذي أخبرنا بالخبر

نزلنا في أحد المساجد بالجفنين على الطريق لأداء صلاة العشاء فنزل الشيخ وأذن للعشاء ثم صلينا لأننا خرجنا من مسجد إلى مسجد وكنا على وضوء إلا من رغب بتجديد وضوءه

تواصلنا بعد الصلاة بالشيخ عبد العزيز السيابي ليلتقينا ويصحبنا لمكان الغسل والمقبرة فأشرف الشيخ على الغسل امتثالًا للوصية ثم خرجنا بالرجل للمقبرة ولم نسمع بكاءً كثيرًا من النساء كما جرت العادة

ولم نسمع نواحًا إلا إمرأة واحدة فقط كانت تقول ( وا زيدي وا زيدي ) وقد استترن النساء في مكان لا يراهن فيه أحد بل كنا نسمع الصوت فحسب فلما سمع الشيخ صوت تلك المرأة

أشار إلى مصدر الصوت بعصاه وقال ثلاثًا اتقوا الله فصمتت تلك المرأة وقد عجبت من سمت أهل فنجا والتزامهم مما ترك في قلبي انطباعًا جميلًا فهم مثالًا يحتذى به في السمت والالتزام من رجالٍ ونساء

كيف لا وفيهم المشايخ الأجلاء والعلماء الأفاضل وكان منهم آنذاك الشيخ العلامة سيف بن محمد الفارسي وهو من العلماء العاملين ومن الفقهاء والأدباء الذين يشار إليهم بالبنان وقد ملأت مآثرهم سائر البلدان

توجهنا بعد ذلك لمكان الدفن فجلس الشيخ على الفور بعد إنزال الميت بمحاذاة القبر بمسافة على الهيئة التي ذكرناها
وهو يتفكر وقد أخذته العبرة

حتى فرغ الناس من دفنه ثم توجه لتعزية أهل الميت وذويه على رأس القبر وقال هكذا هي السنة العزاء على رأس القبر

وقفلنا عائدين فسألت الشيخ هل تكتفي بهذا قال لا بل سنعود من الغد لأداء واجب العزاء ومواساتهم أيضًا وهو قد تجاوز الستين من عمره آنذاك ولايزال رحمه الله يحرص على فعل الخير واتباع الجنائز فما عذرنا نحن اليوم.

رحم الله الشيخ سعيد بن حمد الحارثي والشيخ سيف بن محمد الفارسي رحم الله تلك الأبدان وأسكن أرواحهم فسيح الجنان.