الفلج المنسي وفلج قني بقرية قلهات ببلدة بوشر

0
2158

ضمن تجوالي قبل أيام؛ قصدتُ أخذ بعض الصور لشواهد بلدة بوشر؛ برفقة أحد الصحفيين من أبناء جلدتي، كانت جولتنا في هذه الرحلة إلى فلج قني بقرية قلهات ببلدة بوشر، بين الأفلاج المندثرة والأفلاج التي لا زالت تنافح من أجل البقاء، فكلمة قني لم أجد لها تعريف مباشر، إلا أنني قرأت أحد الكتب العُمانية الذي يتحدث عن الأفلاج في عُمان وذكر الكاتب أصل كلمة قناة إيراني وربما اسم قني من القناة، لربما ثمت رابط بين الاسم الإيراني وقناة الفلج والحضور الفارسي آنذاك ولله العلم من قبل ومن بعد، فإلى هناك أيها الأصدقاء نمرق بعضا من الذاكرة، ذاكرة اتفاقيات صيانة فلج قني للمرحوم خلفان بن سيف الرواحي البوشروي قبل ثمان وثلاثين عاماً، عندما كانت دائرة شؤون الريّ هي المسؤولة عن الأفلاج، نرتشف من معينها رشفة لا نظمأ بعدها، علنا نجد سر من أسرار الحياة لتضميد الجراح قبل أن يأفل بريقها.

نظر إليّ في دهشة واستغراب قبل أن يستطرد عبارته؛ مصحوبة بصوتٍ به حشرجة، وقبل أن يبدأ حديثه أو ينبس ببنت شفة، قاطعته بعدما لوحت بكلتا يديّ، هَلُمَّ نشاهده من الأعلى، لربما تتضح الرؤية من هناك وربما نستشفُ من سموق الجبل وانحداره بعض ملامحه الغائرة من الجبل إلى سفح الوادي، انقشعت السحابة الحائرة التي كانت تحجب ضوء الشمس، كنا نمني النفس أن تحفنا المزن وتبعث فينا بصيص من فرح برشة مطر وإن كانت عابرة، لا يهم المهم أن نشعر بقطرات المطر تُطبع على أجسادنا، بدا عليه التعب من التجوال فقد كانت الجولة متعبة حقا، قطعنا خلالها العديد من الأودية والجبال من بواكير الصباح؛ بحثا عن شيء من الكنوز المفقودة، ولأننا لسنا خبراء آثار أو جيولوجيين نستشف الحضارات من لون الحجارة أو نعرف الشواهد أثناء رؤية الجيف القابعة بين شقوق الجبال أو المعلقة في الأشجار المعمرة

لقد كنا نُطل على العديد من الأشياء التي تلفتنا ونرمقها بعين الدهشة من أول وهلة، مستفكرين في عِظم هندسة الأفلاج لدى الأسلاف، بعد ذلك قد نقرر الولوج في تاريخها أو نهّم بالمغادرة، كلُ ذلك يتم وفق اجتهادات شخصية لا أكثر، وهنا وجدتُ تمازج في الأفكار وتوافق في الآراء بيني وبين زميلي الصحفي، فوراً قمنا بتفحص الحجارة المهترئة على حواف ساقية الفلج المنسي المكشوفة والمصنوعة على أغلب الظن من الصاروج الأبيض الصلب الذي يتحمل قساوة التضاريس وصعوبة الأجواء، ففلج قني يعتبر من الأفلاج العينية التي تصب من الأعلى إلى المنحدر؛ في رحلة تكوينية بديعة خطها الأجداد لتكون مرسماً تأملياً لقدرة الإنسان على تتبع لقمة العيش والاستيطان بشتى الطرق والأساليب الممكنة، رغم الأساطير التي سردت حول نشأت الفلج ورغم الميتافيزيقيا الخارجة عن المعقول، كل ذلك لعدم استيعاب العقل البشري القاصر مكانة العقل وقدرته على تطويع الطبيعة بعيداً عن الأساطير المتناقلة والتي تناقلها البعض ردحاً من الزمن وخطتها المدونات لتكون شاهداً على عدم تقبل بعض العقول قدرة العقل ومتانة السواعد البشرية، وقد قالت الحكمة” من رحم المعاناة يولد الإبداع، فأي إبداعٍ هندسي تشكل من بديع هذه العقول النيرة وهذه القلوب المتآلفة، ففي تآلف القلوب وتعاضد الأيادي أُوجدت متانة التلاحم حتى في شقوق الجبال وكان النتاج هذه الأفلاج العظيمة التي تؤكد صلادة وحضور العُماني مدى الأزمان.

يبدو عليها التصدع والنتوءات، قلت لزميلي الصحفي: ساقية الفلج المنسي التي تحمّلت جريان الماء عقود من الأزمنة، علاوة عن الأمطار التي تسقط عليها ووقوع الحجارة المتدحرجة أثناء جريان الشعاب؛ تحملت وصمدت دونما تزعزع أو ضعضعة، تلك كانت أسئلة تركتها حائرة في أذنه لربما أجدُ معه الإجابات الشافية وربما أجد عنده ما يرضي فضولي، كنتُ على يقين تام بأن ما يحمل من معلومات عن هذه الشواهد أكثر مما أعرف؛ لسببٍ بسيط وهو الذي أرخى قلمه لسنوات من عمره بحثا عن الحقيقة المفقودة في العديد من المواقع التاريخية والأثرية في مختلف مشارب السلطنة، مدوناً ومصوراً ما يشاهده بأم عينيه لا كما يروَ له، وقفت مشدوهاً من حجم الكاميرا التي يحمل على كتفه، طلبت منه أن يتركها في الكهف بين الجباه والانحدار الذي يفضي إلى الفلج، لكنه سدّ عليّ طريق السؤال الممهد هذا وقال: من يمتهن مهنة المتاعب لا يخبو عند أول تحدٍ يواجهه، تلفَّت حوله، وكأنه يخشى أن يكون هناك من يسمعه، غمغمت في أذنه هامسا، لا عليك فالجولة لا زالت في البداية، أترى ذلك الفلج الصغير الذي يشبه الثعبان المندّس خوفاً من أن تنتهي حياته هنا ويصبح في طيّ النسيان، قلت له: أومأ إيجابا نعم أراه، قبل ذلك هز رأسه في ازدراء ساخطا من سؤالي، أتعني بأن عيني أرهقتها السنين وذبُل نظري جرّاء تعاملي الدائم مع هذه العدسة؟، لا تسيء فهمي يا صديقي، ليس هذا ما أرنو إليه، كنتُ أريد أن أقول لكَ شيئاً أو أوصل إليكَ رسالة مبطنة وربما خانني التعبير، قبل أكثر من خمسة عشر عاماً هذه الساعِد التي تراها أمامك كانت تقوم بإزالة العوالق والطحالب والحجارة التي تسدّ جريان الفلج على الساقية من العبور في هذا الشق الضيق، فغر فاهه وكأنه لا يصدق ما أقول، قلت له: دعني أحدثك عن هذا لفلج وما الذي يحويه بالداخل قبل أن نقترب منه حتى أبين لكَ بأنني صادقٌ فيما أقول، وبالحديث عنه وعن تفاصيل جريانه ومن أين منبعه قلتُ له: الآن بإمكانك أن تقترب منه وسوف ترَ عن كثب ما كنت أتحدث عنه، الخطوات تتتابع وتجر الأخرى، كان حريصاً أن ينزل بحذر حتى لا يقع، فالصعود إلى الجبل رغم إجهاده للعضلة إلا أنه أقل حدة وخطورة من النزول، لا تثريب عليك لسنا على عجل من أمرنا، قلت له: وقبل أن ندنو من الفلج، هتف قائلاً إذا كان هذا الفلج وهو أحدث عن سابقه وهو يعود إلى عقود وأزمنة سحيقة، ففلج قني شهد العديد من الحكاوى؛ حاله حال بقية الأفلاج، كم من روح زهقت، وكم من جسد أعيق تحت أنقاض الحجارة الواقعة، أو تعرض للدغة ثعبان أو عقرب أو شيء من العناكب المختبئة تحت الأحراش، أتعلم بأن هذا الفلج حتى تستطيع تنظيفه وإزالة العوالق به .

يجب أن تكون شخص هزيل وغالباً ما تكون في مقتبل العمر، يجب أن تستخدم الأدوات البدائية كالقفير والبالدي البلاستيكي المربوط بالحبل لإزالة الأتربة والحجارة العالقة، كما يجب عليكَ أن تجعل المطرقة والإزميل والشيول رفقاءك في مخاضك لهذا الفلج، فجولتك في فلج قني ليست رحلة تتجول من خلالها على ضفاف نهر السين في باريس ولا تِطواف تمرق من خلاله نهر سافا أحد روافد الدانوب على ضواحي دول البلقان، فقد كان المرحوم خلفان بن سيف الرواحي أحد الأنقياء الذين مخروا عباب أفلاج ولاية بوشر، فالبداية المؤرشفة في رفوف البلديات كانت بتاريخ 16 نوفمبر 1980م، فهو أحد الذين خطّوا هندسة هذه الأفلاج، البناء والصيانة، فقد كان يقوم بتتبع حالة الأفلاج للصيانة، فيرافق المناقصات المسندة ليكون أول من يضع بصمته على هذا الفلج وتلك الأبنية، فالوالد خلفان بن سيف الرواحي عاقر المقاولات منذ نعومة أظافره؛ مذ عودته من الكويت هو وأخيه ناصر رحمة الله عليهما، فكان سخياً لا يبرح الضيف بيته دونما حصوله على رشفة قهوة أو حبة تمرة وأقل القليل تراق له أعناق الذبائح، فهو الكريم ابن الكرام، وهو الذي ذاع صيته بين الأنام، فغدى سيرة عطرة، حسن المناقب، مسفر الوجه، يتحدث عن خصاله ومناقبه الحسنة من في بلدة بوشر إلى العلياء ووادي عندام وسمد وسناو ومن في ثغور عمان أجمع، لم ولن يوفي حقه قلمي في هذه السطور الهشة عندما تُذكر محاسنه وسيرته العطرة، فهو رواية يجب أن تكتب بدم القلب لا حبر القلم

أشحتُ بنظري إلى زميلي الصفحي عندما بدأ يحدثني عن نعم الخالق على بعض الأقاليم والدول التي زارها من قديم الزمان بالمطر الوفير والأنهار التي لا تنضب، بينما نحن من نعم الله علينا وجود هؤلاء الرجال الذين ملئوا الأرض عزيمةً وإصرار، واستطرد قائلا بعض الأفلاج دُمرت من قبل الغزاة الذين عاثوا في أرضنا فسادا في حقبة من الحُقب الغابرة والبعض غيبها الكسالى الخاملون الذين ورثوها وتركوها تتهاوى كما تهاوت أبنية أجدادهم كالبيوت الأثرية القديمة لتزول مع صروف الدهر، قلتُ له يا عزيزي تاريخ الولاية حالها كولايات السلطنة، تاريخ موغل في القدم، ربَّتَ على كتفه وباغته بقولي: إن الآثار والحقائق تدل أن تاريخ ولاية بوشر يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد ويذكر المؤرخون أن الولاية شهدت أحداثا مهمة جدا شاركت في صنع التاريخ، ولموقعة البلقعين بين جيش الحجاج ومحاربي الأزد شواهد لا يمكن نكرانها وهذا ما ذكرته الوثائق، وحتى لا نضيع في عمق التاريخ الذي لا ينتهي.

انحدرنا إلى الفلج مسرعين وقبل أن نجفل بعد أن مسحنا وجوهنا بماء الفلج التقطنا له بعض الصور وبعض المشاهد المرئية لتبيان عراقة المكان والإنسان ولنا أن نتفكر في عظم الخالق في هذه التكوينات التاريخية ولنا أن نستفكر فيمن استوطن هذه الجبال من جموع بشرية لتبقى شاهدة على متانة التاريخ العماني، تأصيلاً لماضٍ لا يخبو وتوثيقاً لحاضر يدرس على طاولات المدارس، حتى لا ينمحي ويضيع من ذاكرة التاريخ. وكانت جولتنا على شفا الانتهاء؛ لولا رؤيتنا فلج المرصد جهة المشرق والذي أصابه الضمور، فقد كان يستخدم كمرصد آنذاك؛ لصيد الطرائد وخاصة الوعل، وعندما هممنا بالانصراف إلى نهاية مصب فلج قني، لاح لناظرنا مسجد الخور الذي غدا أطلالا محته نوائب السنين، فلم يبقى منه إلا ذكريات يتداولها كبار السن بين الفينة والفينة، ومن هناك كنا نشاهد مسجد الوكيل أو وكيل الفلج وهو مسجد للنساء الذي بقى صامداً مكانه فالشاهد أن أعشاش الطيور بدت تنخر أجزاءه بعد أن هجرته النسوة، فما عادت نساء قرية قلهات يلجأن إليه لمناجاة الخالق كما كن يفعلن زمان، فالأيام تبدلت والعولمة دست سمومها، فنالت منهن كما فعلت بقرائنهن من نسوة الأحياء الأخرى في بلدة بوشر، تُرى هل ستصمد الأفلاج في قادم السنوات كما صمد ونافح فلج قني من أجل البقاء.

بقلم / يحيى المعشري