خلفان وضاحيته

0
1808

قصة قصيرة بقلم / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي

خلفان رجل مزارع يهوى التواجد معظم الوقت بين أحضان ضاحيته ، يرضم الأرض أو يجز الحلف أو القت ، وكثيرا ما يتغدر النخيل لشرطها أو تنبيتها أو تحديرها أو جدادها ، منذ أن كان صبيا صغيرا يجري خلف والده بين السواقي والجِلب يشاهده وهو يعمل بجد وكد لا يمل ولا يكل .

تعلم خلفان من أبيه الصبر وانتظار نمو البذور التي كان يغرسها بيديه في التراب عندما يحين موعد بذر الحَرِية والبُر ، قبل هذا كله بشهر يبدأ خلفان في حراثة الأرض بجراره اليدوي ( الهيس ) الذي يربطه على كتف وسنام الثور ،ويبقى خلفان يسير مع الثور طوال فترة الحراثة يوجه دفة الهيس في كل مرة على جانب من جوانب الأرض التي يود زراعتها ،والتي منع الماء عنها لأشهر عديدة حتى تيبس ،وتبدأ التربة في معالجة نفسها من خلال استنشاق الهواء وقتل البكتيريا الضارة والبقاء على البكتريا النافعة .

بلا شك لم يكن خلفان فهم على هذا النحو إسلوب التعامل مع التربة في ضاحيته ، لكنه تعلم من أبيه بضرورة حراثة الأرض قبل كل موسم زرع حتى يقتل الغيلان التي تعيش على أكل التراب الرطب من الأراضي الزراعية وهي كذلك تضايق النبتة أو الفسيلة ، ان الثور له منافع كثيرة عند خلفان فهو يزجر به في (الخب) ليرفع الماء من الجابية أسفل الضاحية بالقرب من الفلج الرئيسي الذي يغذي القرية كلها إلى ساقية الفلج أعلى الضاحية ، ثور خلفان نشيط ويستطيع أن يتحمل الكثير والكثير من العناء وذلك لأنه يطعمه الكثير من (الغشمر والبر )ويصنع له المغبرة التي تتكون من عدة عناصر من الفيتامينات والمعادن والألياف ، يبدأ خلفان بتحضير الفلح والحشف والقاشع والهضوب الصيد وألياف جوشنة الموز ثم يخلطها في مرجل واحد ويضعها فوق الموقد ليوقد عليها النار ، وبين مدة وجيزة وأخرى يعود ليقلب محتوى المغبرة ، ويغطي عليها وتضل مخمرة فترة طويلة ، وبعد ذلك يأخذ المغبرة ويدلقها في (المطعم ) وهو وعاء صنعه خلفان مثله كمثل غيره من أصحاب الأبقار والماشية

صنعه من جوس أشجار النخيل الرطبة على أن يكون طوله ذراعين وعمقه من شبر إلى شبرين ونصف ، قبل شروق الشمس يتوجه خلفان إلى (درس) الثور حيث يقوم بتنظيفه مرة في كل إسبوع، ويخرج منه الروث ليوزعه على جِلب النخل والموز والليمون فيسمد به كل شجرة في الضاحية

رغم أن خلفان رجل قروي لم يخرج من قريته ولم يقرأ يوما كتاب عن إدارة الموارد المائية أو الزراعية ، لكنه يقرأ ويكتب فقد درس القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على يد معلمه صالح بن سعيد بن خلفان بن عامر المقيمي ، ان أجمل ما يمتلكه خلفان دون غيره من المزارعين ، هي قوة الإرادة وحضور البديهة ، حتى بقايا الليف والزور والكرب والهوالة من بقايا متنوعة من أرض الضاحية يقوم بحرقها لتصبح رماد ينثره تحت كل الأشجار كمغذي للتربة وقاتل لبعض الحشرات مثل سوسة النخيل (الكعل ).

لم يعتمد خلفان مكاناً مخصصاً لحرق مخرجات الضاحية، فقد كان يحرق في أي مكان يراه مناسباً ، وكان يكافح الحشرات والزواحف الضارة بطريقة ميكانيكية بدائية ، رغم ذلك لم تتأثر الأشجار لديه بأي من الأمراض أو تكثر الحشرات يوماً في ضاحيته ، كانت الضاحية بالنسبة لخلفان قلبه النابض، وساقيتها شريانه المغذي ، أما جِلبها فقد كانت تعني له جسده ،و كان يتنفس هواءها ويتغذى على ثمارها ، فالضاحية تعني له وجوده على قيد الحياة ، فمنها وبها ولأجلها يستمد قوته وطاقته ، هي أنيسه وقت الضجر ، وهي خليلته وقت السمر ، وهي رفيقته في السفر ، ضاحيته كانت تعني له اكثر من ذلك بكثير ، فقد ولد وعاش أحلى أيام طفولته في الضاحية ، كما أفنى شبابه في خدمتها .

حتى جدران الضاحية تزمر وتئن، كانت وما زالت تحفظ كل أغاني خلفان التي تغَنى بها وهو يسقي ليكسر الوقت ، خوص النخيل الذي يعانق السماء يلطم بعضه بعض ويبكي وهو يودع جثمان خلفان المسجى على ساقية ضاحيته ليغسله مائها لآخر مرة قبل الوداع الأخير

سبحان الله حتى وهو ميت فقد سقى ما تبقى من عرق على جسده الميت ضاحيته التي سوف تظل تبكي عليه لسنوات قادمة ، وثوره الذي يحاول أن يقطع قيده من رسغه ، وعيناه تدمع وهو يشاهد صاحبه الذي عاش يحتضنه سنين وها هو يكفن أمام عينيه ويودع مملكته لمثواه الأخير ، حتى الطيور التي كانت تملىء المكان زقزقة، تعلمت الصمت في ذلك اليوم وكأن الحزن لجم حناجرها ونسيت غناءها وأناشيدها الجميلة ،وأعلنت الحداد مثل ما أعلنته ضاحية خلفان حزن على فراقه، خرج منها محمولا على الطارقة والطيور ترفرف أعلى فوق جثمانه لتقيه حرارة الشمس حتى تم دفنه .