البحث عن الذات في أروقة الزمن

0
2258

بقلم/ بدر بن عبدالله بن حبيب الهادي

إهداء / إلى المرأة التي أشعلت فتيل الثورة في قلبي، وصاغت تشكيل هذه
الكلمات ونثرتها مطرا في الحنايا لكي أقوم بإشعالها … فمن ذا الذي يقدر أن يحمل
حزني الصامت غيرك، ومن يعبر عنه بالأحرف لتبتسم النجوم في وجهي غيرك، ومن
يقدر أن يصحي صباحات الأمل في حياتي غيرك أنت؟ حتى يتوهج في خاطري فرحا
مثل مطر يروي الأرض، وتشدو معه العصافير، وتبتسم الأشجار وتخضر الروابي،
ويتراقص الأطفال على صوت حباته، عندها يحتفل شعاع الشمس في نغم ليحرك
مشاعري الوهاجه في مدارات أرحب. يا ….

الجو حار، حار جداً، هل كانت فكره صائبة لإقامة حفلة عيد ميلاد في مثل هذا
الجو الخانق الذي تبلغ درجة الحرارة فيه تسعاً واربعين درجة لا تزيد ولا تنقص،
لقد دعوته وانتهى الأمر، والآن سأبدأ في تجهيز موقع الاحتفال، لدي صديق دعوته
منذ ثمانية وأربعين عاماً لأحتفل بعيد ميلاده ، كان يرفض تلبية الدعوة ، وحين أعاتبه
على ذلك يرد …
– روح لعب ما عندك شغل واحد ماسخ .
لا أستطيع الرد عليه بالرغم من وقاحة أسلوبه ، فهو بالنسبة لي ما يزال طفلا صغيراً
لم يبلغ سن البلوغ .
ثمانية وأربعون عاماًكان وما يزال يعاني من ذاكرة مشوشة بالأمنيات التي لا يستطيع
تحقيقها ، ثمانية وأربعون عاماً وهو مسكون بالقلق والخوف من المجهول الذي
يلازمه أينما ذهب وارتحل ، الشعور بالغربة والتوجس من الآخرين يسيطران على
حياته ، كان أسير الأزمنة الأولى التي لا يعرف مبتداها ولا يعلم نهايتها ، هل أنت
مجنون؟ هل أنت إنسان عاقل ؟ كنت أطرح عليه الأسئلة ، لكنه لم يكن يكلف نفسه
عناء الإجابة على اسئلتي بل كان ساكنا هادئا يكاد تسمع صوت دقات قلبه .
يبدو أنه يشعر بألم في مكان ما في جسده ، لعله يبحث عن معنى الوجود .
ثمانية واربعون عاماً وهو يرافقني خيالان لا يفترقان ، أنا هنا لست في حساب معه
على تلك السنوات الضائعة ، لقد قررت وكالعادة دعوته للاحتفال بعيد ميلاده ولأول
مره يلبي دعوتي ولا أعلم السر الذي جعله يوافق على ذلك بعد مرور تلك السنوات،
يبدو أن شيئاً ما يدور في رأسه ، يجب أن لا أفكر في ما يخبيء من احداث ، ما يهمني
هو قبوله الدعوة وليكن بعد ذلك ما يكون ، فهو ما يزال طفلا صغيراً في نظري لذلك
ّي الإسراع في تجهيز مكان
قررت الاحتفال به بطريقة مبتكرة .. الآن يجب علي الاحتفال أعلم أنه إنسان بسيط لا يحب المبالغة

ولا يحب الترف لذلك اكتفيت بإحضار
زجاجة ماء ، وقليل من المكسرات وبعض الفواكه ، هذا يكفي ، ليس هناك شيء مما
تعارف عليه البشر في أعياد الميلاد ، لا هدايا ولا شموع ولا كعكة الميلاد ، انا وهو
فقط ومرآة وضعتها على الطاولة حتى يرى نفسه بصورة أوضح ، وقد عقدت العزم
على أستغلال حضوره لأجعله يتحدث عن نفسه ، وعن تاريخ ميلاده ، كان ذكيا ،
يبدو أنه كان يعلم ما يدور في عقلي ، لم يتأخر كثيراً في سرد قصة حياته وبدأ حديثه
قائلاً
– سوف أبدو رتيبا لو حدثتك عن حياتي ولكن لا بأس الحياة أصلا رتيبه .
– ضحكت وقلت له أنا أسمعك .
يتداول الناس قصة مولدي ، قائلين بأنني ولدت في اليوم الذي كانت فيه السماء
تصرخ استغاثة ، اليوم الذي كانت فيه الأرض تتوجع ألماً من أقدام ثقيله تعبث
بتربتها، اليوم الذي أتى فيه جفاف أصاب مزارع النخيل لم تعهدة البشرية لا من قبل
ولا من بعد ، وبسببه مات الناس جوعاً ليبكون على فقدان حب ، لكنني أعلم بأنني
ولدت قبل ذلك بكثير ، يوم مولدي احتجبت فيه الشمس خلف غيوم ثقيلة ضنت
بمطرها على الناس ، وزمرة من المؤرخين تقول بأنني ولدت قبل ميلاد المسيح عليه
السلام ، لكن الشواهد الأثرية المتحجره على جسدي تؤكد بأن يوم ميلادي كان في
لحظة طرد آدم من الجنة عندما أغواه ابليس قائلا له ( هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى ) الحياة الأبدية والملك الدائم هما الشيئان الوحيدان اللذان يحلم بهما
الإنسان ولم يحصل عليهما إلى الآن ، ولن يستطيع الحصول عليهما ابدا ، فالخلود
والملك Ϳ وحده عز وجل ، لينزل آدم وزوجته حواء إلى الأرض ليعيشا معا كحبيبين
افترقا في ليلة الزفاف .
احتار الجميع في تحديد تاريخ ميلادي ، فمنهم من ينحاز للطرف الأول ، ومنهم من
يؤكد ويقسم بأغلظ الايمان على صحة الرأي الثاني ، أما الآن وبعد مرور واحد
وعشرين قرنا من الميلاد فإن يوم ميلادي ما يزال لغزاً حير العلماء ولم يصل أحد
إلى فك طلاسمه ، لكن في قرارة نفسي فإنني مازلت طفلا صغيراً يحبو مثل الرضيع
ليتباكا في حضن أمه .
يوم ميلادي حط الصمت رحاله ، وأخذ النعاس يغالب عيون البشر ، في ذلك اليوم
خاطب الليل شقيقه النهار قبل الغروب قائلا له :- في حضني سيخرج إليكم انسان
يحاول تذوق طعم الحياة ، يحاول أن يملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً ، أن يكنز صدره
بأثمار شهية ، يحاول أن يفتح فمه ليدخل الهواء النقي إلى رئتيه ويضرب في عمق
الزمان باحثا عن تاريخ يتسلق عن طريقه منابر الشرفاء ، هذا الانسان سوف يطير
بقلبه في الظلام ويغافل القمر ليهرب مسرعا إلى حضن حبيبته ، يلامس صدرها ،
تعصره بنهديها ومعا يراقصان النجمة الزهراء ، هذا المولود الجديد سوف يطل على
الحياة وقد كتب في شهادة ميلاده أنه ولد في يوم كذا وفي سنة لا يعلمها غير الله هذا
الطفل ليس كالآخرين أنه يفطر بالحب ويتغدا حبا ، كذلك في العشاء يتناول أضعاف
مضاعفة منه … يواصل حديثه وقد تغيرت نبرة صوته …
تلك قرون قد خلت ، قضيتها بين مد وجزر ، كنت ابحث عن شيء مفقود لعلي أستطيع
الظفر به ، لتتوالى الأعوام وتتواصل رحلة الانسان إلى يوم يبعث فيه الأموات من
القبور إلى ربهم ينسلون فلا غالب يومئذ إلا الله ، أما أنا فلا أعلم ماذا يخبئ لي القدر.
– أسمع أريد أن أطرح عليك سؤالا .
– تفضل أنا ما زلت منصتاً أليك .
– بعد موتي هل تستطيع العزف على ربابة الفرح ، وهل تحس بالصمت الثقيل
عندما تشاهد أسراب العصافير وأنا تحت التراب وهل تنهمر سماواتك معاني
وكلمات ودموع ؟
– الحقيقة لا أستطيع الإجابة فأنا لا أعلم بما أحس به بعد رحيلك.
– عليك عدم الحزن لفراقي فأنا وأن رحلت ما زلت أمتلك الهيبة والجلالة
والوقار … يصمت عن مواصلة حديثه، يبتسم … ثم يرحل تاركا خلفه
عشرات الأسئلة تدور في رأسي، وعندما حاولت اللحاق به لأودعه هربت
الكلمات مني وذرفت العين الدموع، واختلطت المعاني وكأنما المكان أصبح
مظلماً أو هكذا خيل لي .