آهات لا تغادرنا..

0
852

أعلم أنّ الكتابة عن مرضه ومعاناته ومن ثم رحيله تجهدني كثيرا ولكن زخم الذكريات وتدافعها وصمودي لمدة خمس سنوات من المقاومة المتراكمة بالشوق والآهات يؤلمني أكثر والحنين إلى الذكريات جعلني أنفض الغبارعن صفحاتي المبعثرة وأعيد ترتيب السطور المبعثرة والأفكار المشتتة، فما أصعب الحديث عن فراق لا لقاء بعده..!

لحظات عابرة من الفرح وساعات من الحزن وسنوات من المرض ويوم الوداع.. كلها محطات تحتاج كمية كبيرة من الصبر وحبر القلب والألم..!

هناك أجساد تغادرنا ولكن تبقى روحها تعيش بدواخلنا بكل تفاصيلها ولذلك اقتصر بعثرات حرفي على آهات المرض..!

شعورغريب ينتابني منذ نقله للمستشفى.. شعور لا يمكن تفسيره .. شعور مزيج من الألم والخوف والمسؤولية.. وما يزيد الأمر غموضا عدم مقدرة الأطباء على تشخيص إصابته ونوعها هل هي جلطة دماغية أم شئ آخر..؟ وكم سيبقى طريح الفراش..؟ وهل سيبقى عاجز عن الحركة والكلام..؟

لم أكن مستعد لسماع إجابات على كل هذه الأسئلة، أنا أريد فقط أن أراه بالقوة التي عهدته عليها..يذهب إلى عمله ويخطو خطواته المعهودة إلى مسجد الخطو..

خلال زيارتي له بالمستشفى قرأت في عينيه بأنه على موعد آخر من المعاناة ولكن تتابع نظراته يؤكد لي بأنه يجتازها مهما كان نوع المرض وحجم الأصابة كما اجتاز كل ألم وكل كدر سابق.. كان أبي رغم مرضه الشديد يتمتع بقوة كافية لتقبل المرض وتحمل الألم..

عرفه الجميع بالنقاء والصفاء والكرم الحاتمي والقلب المعلق بمسجد الخطو والعمل الصادق إبتغاء مرضاة الله.. عرفنا عنه ومنه مفهوم العمل التطوعي وعمل الخير ومنذ مطلع الثمانينات كان يخصص يوم الجمعة للعناية بالمسجد وتنظيفه وحث أبنائه بل ومشاركتهم له في هذا العمل منذ نعومة أظافرهم..!

كل ذلك العهد والتأسيس تبعثر نتيجة إصابته بجلطة دماغية عطلت قدرته عن الحركة..  كل أحلامه وأمنياتنا ذابت كذوبان قطعة الثلج حينما تلتصق بصخور جبال السد في ظهيرة شهر يونيو أو يوليو.. كنت أمني النفس بأن يشهد حفل تخرجي فهو والوالدة العزيزة الأحق بالتتويج لكنها مشيئة الله وحكم القدر..

خرجت من المنزل.. حاولت أن أقتفي أثره وأمشي من نفس الطريق الذي يسلكه كل ليلة بعد تأدية صلاة العشاء في مسجد الخطو..

بدأت خطوتي الأولى من أمام المحلات في حارتي وموطن نشأتي حارة الخطو ولوحت بيدي للجالسين من أهلي وأصحابي على الطاولات الخارجية بمقهى محي الدين، مررت على كل البنايات ولأول مرة أتمكن من قراءة كل اللوحات التجارية المنتشرة في حلة السد حتى إنني حفظت يومها ترتيبها وعددها بدء من المقهى المشهور في الحارة والمعروف بمقهى محي الدين حتى معهد بوليغلوت في حلة السد قبل دوار وادي عدي..

وعلى الرغم من نسمات الهواء الباردة في تلك الليلة الشتوية الجميلة، لكن التفكير بأمر مرضه الأليم أنساني شرب شاي الكرك كما هي عادتي كل صبح ومساء..!

لاحظت وأنا أواصل السير خلو الشارع ليلتها من همسات الشيوخ .. ومن صرخات الأطفال وهم يلعبون ويمرحون ومن تجمع شباب الحارة أمام النفق كما هي العادة.. ربما خبر مرضه أنتقل إلى مسمعهم.. فالحارة كالجسد الواحد والمريض حياة للحارة وجميع أهلها داخل قلبه..

ولاحظت كذلك إختفاء جميع أحواش البيوت المشهورة بها حلة الخطو..

وكذلك خلو الشارع من اللغة التي نعشقها.. ربما كثر عدد الوافدين بيننا ولكن لم ننتبه لإنشغالنا بأنفسنا من دراسة ولعب وعمل وجلوس مع الاصدقاء وربما الحياة بحاجة إلى المزيد من التأمل حتى نستعيد ترتيب الأمور ومنطقها والتفكر فيما حولنا.. ربما..!
الصورة كانت مبهمة ولم أستوعب بعد ما الذي يحدث، أو بعبارة أدق لماذا كل شئ يمكن أن ينتهي في لحظة..! الاحلام والطموحات ممكن تتوقف ولا نعرف لها سببا .. لم ارغب في التواصل مع أحد للحديث عن مرضه أو مرض الموت البطئ ، لم أرغب ان أكدر أحد بأسلوبي العاطفي.. عندي كلام كثيرغير مترابط ولن يستوعبه أحد فآثرت الإنعزال والإنكفاء وأنا أردد على نفسي سؤال الألم؛  لماذا الصادقون يعانون أكثر من غيرهم في هذه الحياة البائسة..؟!

أعتراف

مهما يكتب الإنسان ويبدع في مقالاته وخواطره تبقى الحروف عاجزة أن توفي الوالديّن الصالحيّن حقهما..

ملاحظة

كتبت هذه الآهات المبعثرة ليلة 30 مايو 2010 أي بعد مرور خمس سنوات من رحيل الملاك البشري عن دنيانا..

سعيد بن سالم الوهيبي