قابــوس ذكريات نهضة وبانيها

0
2334

بقلم / خالد بن سعد الشنفري

هذه ذكريات من قصاصات ورقية لما عشته طفلا وشابا للعقدالاول من النهضة المباركة .

الزمن : ظهيرة يوم الثالث والعشرون من يوليو من عام 1970م  ، كنت  في  التاسعة من العمر حينهاتقريبا ، أقول تقريبا لانه قبل هذا التأريخ لا يوجد بعمان كلها مستشفيات للولاده ولا للعلاج من اساسه.

لم تكن هناك شهادات للمواليد ، وأية شهادة ميلاد صرفت دوّن بها تأريخ موحد للجميع ، ( يوم وشهر الميلاد ) هو  تأريخ واحد يناير (1/1/….. )  لان شهادة الميلاد التي صرفت لنا بعد ذلك كانت تسنين طبي اي افتراضيه وتقدر بالسنوات  ليس باليوم والشهر، لذا اعتد رسميا بهذا التاريخ الافتراضي 1/1 ، وقد سننت طبيا من مواليد 1/1/1961م ، وأصبح هذا التاريخ  الافتراضي ملازما لي الى اليوم .

كنا نولد ونموت في غرف النوم ، يقال أنني ولدت قبل أو بعد إعصار الحيمر  (عام الغريقه) بمده قد تزيد او تقل سنه او سنتين تقريبا.  

في ظهيرة هذا اليوم كانت عائلتنا مجتمعه على صحون الغداء في البيت  الكبير بعدد افراده وليس بكبر حجمه في منطقة الحافه بجوار قصر الحصن.

كانت معظم البيوت تضم الجد وأبناؤه الذكور وعائلاتهم واحفادهم ، وقد يمتد نسيج بعض هذه العائلات في البيت الواحد إتساعا راسيا اوافقيا ، ما ساعد على استمرار هذا النمط من الحياه كانت الاوضاع الاقتصادية المترديه منذ سنين سابقةوضيق ذات اليد لقلة العمل وشحة الدخل من المهن المختلفة البسيطه التي يستقيم بها اود حياة اي مجتمع بشري ، كالزراعه والصيد والرعي وتربية الحيوان ، اضافة الى سيل الممنوعات التي فرضت تباعا ومنها عدم السماح ببناء منزل جديد اواضافة او تعديل على منزل قائم في كافة مناطق صلاله إلا بموافقه من السلطان ، وتصل عقوبة المخالفةالسجن لمدة عام .

كنت أكبر حفيد سنا لهذه العائله، عايشت شخصيا سجن جدي لمدة سنه  رغم انه قد ناهز السبعين من العمر لمجرد قيامه بترميم بسيط لجوانب بوابة البيت الخارجي كيلا تسقط .

قضى منها جدي ثلاثة أشهر في سجن الحصن بصلاله  حتى جاءت الموافقه بعد حثيث متابعة على أن يستبدله ـ عمي – ليكمل السجن بدلا عنه للتسعة الاشهر المتبقيه من المحكوميه .

كنا طوال مدة هذا العام نوصل اليهما  وجبتي الغداء والعشاء مشيا على الأقدام أوعلى ظهور الحمير، فلا مواصلات كانت توجد بصلالة سواهما ، كان نظام السجن لايقدم الطعام للمساجين ، وكان المساجين يتقاسمون الطعام فيما بينهم ، فقد كان بينهم سجناء من مناطق ارياف ظفار البعيدة ونجدها وبواديها ، ليس لهم أهالي مقيمون في المدينه لجلب الطعام لهم يوميا.

كنا ظهر هذا اليوم مجتمعين نتناول اللقيمات الاخيره من غداءنا ، سمعنا أزيز أصوات طائرات (السترايك ماستر) يتكرر بكثافه في الاجواء ، كانت طائرات قاذفة انجليزية صغيرة قديمة الصنع منذ الحرب العالمية الثانية على مايبدو ، وليس لها هدير كطائرات (الهوكر هنتر) الامريكية المقاتلة والتي ادخلت الخدمة في العام 1973م  وبعد ان اصبح لدى  الطرف الآخر المستهدف منها ، ثوار جبهة تحرير عمان والخليج العربي (آخر مسمى لها) قد حصلوا على اسلحة وصواريخ ثقيلة من المعسكر الاشتراكي الداعم لهم وبسبب تزايد انشطتهم ، طائرات استرايك ماستر  كانت المملكة المتحدة البريطانية الصديقه قد اهدت السلطان سعيد بن تيمور عدد بسيط منها في اواخر الستينات  لقدرة هذه الطائرة  على التسلل  خفية بين الوديان  والشعاب في جبال ظفار لتقتنص اهدافها ،  كان ازيزها هذا اليوم مقترن باصوات  زخات  طلقات اسلحة رشاشة  لم نتعود على اصواتها  داخل المدينة  ، كانت الاسلحة المسموح بها في المدينة تقليدية  غير اتوماتيكية  في مناسبات المواطنين كالاعراس وعيدي الاضحى والفطر .

على وقع تلك الأصوات الغير المألوفه ، سحبت يدي من الطعام  ونفسى تشتهيه وانطلقت برعونة الطفوله كالسهم ناحية مصدر تلك إلطلقات  0

وصلت إلى آخر البيوت غرب منطقة الحافه ناحية السور الخارجي لقصر الحصن ،  مقر السلطان سعيد بن تيمور.

لم يدر بذهني حينها ان التاريخ  يصنع هنا اليوم من جديد.

تجمهر مجموعه من الناس من مختلف الأعمار، لا أحد فيهم على مايبدو يعلم ماذا يجري ، لم نعد نستطيع التقدم خطوه الي الامام ، حيث فوهات البنادق والرشاشات على ظهور سيارات اللاندروفر العسكريه موجهه إلينا والجنود المتلثمين بالمصرات العسكريه لايرى منهم الا عيون تتحرك .

هناك ايضا في الناحية الشمالية للسوق وسط المزارع جنودا في حالة استعداد تام وقوفا وانبطاح على الأرض  وايديهم على زناد بنادقهم ورشاشاتهم ، واخرون يحملون برقيات اللاسلكي ، كانت السترايك ماستر تمشط الأجواء جيئة وذهاب فوق الحصن والمنطقه .

ماذا يجري ياترى؟! شيئ لم نالفه من قبل ، نشخص نحن الصغار أبصارنا ونشنف آذاننا لنلتقط أي كلمه شاردة او واردة  من الكبار الذين تجمهروا ، لمعرفة ماذا يدور، لكن لا أحد ينبس ببنت شفه، انه الخوف في زمن الخوف ،  حتي الأخ كان يخاف من أخيه ، لا أحد يرغب حتى في مجرد التفكير في إقتياده لسجن حصن صلاله البغيض أو سجن جلالي مسقط المرعب الذي اقل مايوصف به ؛ بأن الداخل اليه مفقود ؛ فلم يعرف ان أحدا دخله وخرج منه .

،فقد جندت حتى بعض العجائز للتنصت ونقل اي خبر يدور بين الناس عن الثوار وبلغ التوجس بين الموطنين الى حد تناقل اخبار انهن مزودات باجهزة تسجيل صغيرة مخفية بين ملابسهن لتسجيل مايدور بين الناس.

قبل خمس سنوات من اليوم اقتيد لسجن جلالي مسقط  دفعه من حوالي ستون شابا من أبناء ظفار لايعرف عنهم اي خبر طوال هذه المده.

لم يكن يَصل إلى مسامعنا  من وسط ذلك التجمهر

الا كلمات تقال ، مثل ؛ الله ينصر السلطان سعيد بن تيمور ، انه استعراض عسكري له وما شابه ذلك من الكلمات ، الا أن اذني التقطت كلمات حميميه مخنوقه تدور همسا بين اثنين من الكبار تنحو جانبا يوشوشون لبعضهم خلسه ؛ انه “قابوس”انه العهد الجديد لعمان.

لم أفهم ماذا يعني ذلك كله ولم اكن أعرف عن أي عهد آخر او حياه اخرى يعيشها بشر في أي مكان من العالم سوى ماكنا نعيشه هنا ولم اكن استوعب مايعني  الفرق بين عهدين ، رغم انني قد شاهدت مرارا “قابوس” أثناء ذهابي للتسوق  في سوق الحصن الواقع داخل نطاق أسوار الحصن والمقابل لبوابته الرئيسيه وملحق به من الجنوب ناحية البحر مايعرف بأنه مقرا لقابوس بعد أن عاد الى صلاله قبل عدة سنوات من رحلته الدراسية  في الخارج  .

لم يوكل السلطان سعيد بن تيمور لابنه قابوس بعد عودته من الدراسة اي مهمة رسمية وظل قابوس طوال هذه الفترة في القصر باقامته ويزوره من الاساتذة المعلمين العمانين الاجلاء الذين توالو على تدريسه علوم اللغة العربية والشريعة الاسلامية وثقافتها وتأريخ وثقافة عمان وقبائلها بعد ان  تخرج من ارقى  الكليات العسكرية في بريطانيا واشترك عمليا  في التدريبات العسكرية لمدة ستة اشهر مع القوات البريطانية  في معسكرها  في المانيا الشرقية إبان الحرب الباردة  وتلقى دراسات ودورات مكثفة  في الحكم المحلي  في بريطانيا  زار بعدها معظم دول  العالم المتحضر في ذلك الوقت في رحلة استغرقت  ثلاثة اشهر .

كنا نلحظه احيانا في جوله قصيره له على شاطئ البحر بجوار مبنى الفرضه ومنطقة تنزيل البضائع من السفن على السنابيق يتمشى على البحر بلحيته الكثه وجسده النحيل ، يرافقة اثنان من حراسه الشخصين ، لم يكن احد يتجرأ على الحديث معه عن قرب (يقال ان ذلك  ممنوع) ، اللهم الاّ السلام عليه بالاشارة من بعد .

كنا قد جبلنا على وضعنا هذاحتى اصبح روتين معاش ، كلما كان يعنيني شخصيا، ان لا اتأخر عن مهام عملي اليومي الذي امارسه كالآله الصماء ، لذا رجعت عائدا الى البيت لتأديته ؛ أشد على سرج حماري ، والركوب عليه لاتوجه الى المزرعه لتكملة عملي لفترة مابعد الظهر والغداء ، أعود بعدها آخر النهار بقطيع الأبقار بعد تحميل حشائش طعامها لفترة الليل على ظهر الحمار الى حوش بيتنا الخلفي.

بدأ لي عصر هذا اليوم  في المزرعه والمزارع المجاور لها غيرعادي أيضاً  كظهيرته ، اليوم كله يوما غير عادي على مايبدو وينبئ بحدث جلل .

لقد قارب الوقت علي الغروب ولا حياة ولا حركه  تدب في  المزارع وعلى غير العاده تماما ، وما كانت تعج به من حياة وحركة  كل يوم ، هدؤ غريب مريب يكتنفالمكان ،لم يعني صغر سني وضعف التعليم الذي كنا نتلقاه في مدرسة المعلم الواحد الاهلية  ومحدوديته داخل بيوتهم من الاستنباط واعمال العقل والفكر فلم يسعفني حتى مبدأ او مقولة ان الهدوء الشديد يسبق العواصف عادة .

ظللت أسأل نفسي وانا في حيرة من أمري ، أين الناس، أين حركة المزارعين وتزاورهم واحاديثهم لبعض ؟! لم يكن امامي الا انتظار الفرج علّ احدا يمر.

الوقت أزف لا بد من المغادرة الى المدينة ، لابد من الاستعداد لتحميل الحشائش (طعام الابقار الليلي ) على ظهر الحماروإطلاق القطيع وقيادته ، فرغم ان عصر سرقة الحيوانات ايام ضيق العيش سابقا( كما سمعنا ) قد ولى وانتهى لتزايد عسكر وعسس الحكومة الا ان  جميع  اصحاب المزارع  كانوا يحرصون على اصطحاب حيواناتهم الى البيوت لحلبها مساء وصباحا ولانها ستكون اشبه بالمال السائب في تلك المزارع المبعدة عن السكان .

في انتظاري الطويل لظهور من يعينني تزايد لدي القلق وأصبح يتحول الى خوف ، حاولت التماسك بانتظار الفرج ، حتي قيض الله لي أحد الماره من الكبار، ساعدني في مهمتي، فبدأت بتسيير قطيعي رغم الظلمه التي اخذت تتسلل الي المكان ، ورغم ما كان يعشعش في اذهاننا نحن الصغار آنذاك عن الظلام في المزارع ووسط (مقاييف) طرقاتها التيتصطف على جانبيها نخيل النارجيل واشجار موز ابو بقرة ذات الساق الطويل التي تطاول النخيل ارتفاعا ومايشكله ذلك من ظلال ثقيل عليها نهارا وظلام معتم ليلا وارتباط ذلك كله بالاشباح والعفاريتالتي كانت تروى قصصها الخيالية علينا في جلسات سمرنا ، حيث لاتلفزيون يشاهد ولا مذياع يسمع ولاكتاب يقرأ ، فنتمسر لسماع تلك القصص التي ما انزل الله بها من سلطان فلا بديل ثقافي آخر ينهل منه الاطفال في ليالينا المظلمة سوى سراج الفوانيس الخافته التي لايتجاوز نور اضائتها محيطها ، ظلام في ظلام حيث شطرت وجهك .

في طريقي الى البيت بالحافة لمحت عمي ، قادما مهرولا ناحيتي والفرح يغمر اسارير وجهه .

كان عمي قد عاد الى صلاله من الخليج منذ عدة سنوات حيث كان يعمل هناك وقد عاد بالاتفاق مع اخوته الاثنين الاخرين الاكبر منه سنا ليبقو هم في اعمالهم هناك في الخارج للعمل لإعالة العائلة والصرف عليها ويعود هو ليتزوج ويكمل نصف دينه ومعاونة والده المسن في ادارة شؤون العائلة المكونة من اسرته الجديدة  واسر اخوته الاثنين والوالد والولدة .

والدي وعمي الاخر المغتربين بدورهم منذ سنوات في العمل بالخارج لا اكاد اتذكر ملامح وجوههم  ، كان والدي قد غادرنا وعمري ثلاث سنوات وها انا قدبلغت التاسعة من عمري ولم اره .

السبب في طول غياب هؤلاء المسافرين وعدم عودتهم للوطن هي  مشقة السفر التي كانت تستغرق رحلة الذهاب او الاياب لعدة اشهر على متن سفن تحميل البضائع الخشبية الصغيرة التي يُسهل وصولها لقرب الشاطيء مقابل فرضة سوق الحصن لتنزيل البضائع لعدم وجود رصيف بحري ،  وايضا تنامي الثورة في جبال ظفار ورغم تسوير صلالة كلها من البحر الى البحر من ناحية الجبل شمالا للحيلولة دون التحاق الشباب بالثوار في الجبل وقطع الامدادات من المدينة عنهم تم ايضا منع السفر بحرا تماما ولنفس السبب ولم يعد بامكان اي مسافر مغترب العودة مرة اخرى لعمله بالخارج اذا رجع الى الوطن فاكتفوا بالبقاء في اعمالهم متحملين آلام طول الاغتراب والفراق لإعاشة اسرهم وتحويل الاموال من هناك .

عملية التحويل المالي للمغتربين في دول الخليج البترولية الى الداخل كانت مُشكِل بحد ذاته ، الا ان تجار سوق الحصن بصلالة اصحاب الدكاكين الفضلا توصلوا الى طريقة لتجاوز هذه الاعاقة ، فقد كانت عملية التحويل تتم عن طريق ارسالها الى تجار جملة معروفين في عدن لصالح تاجر معين في صلالة ، يقوم تاجر الجملة العدني بارسال قيمة هذه المبالغ في شكل بضائع للتاجر العماني المحولة لصالحه في صلالة حسب طلبه للنوع والكمية التي يرغب في استيرادها من البضائع وليقوم بدوره بتسليمها لاسرة مرسلها المغترب اومن يوصي له نقدا او بضاعة حسب رغبته ودون ان يتقاضى هذا التاجر اي زيادة اومقابل على ذلك .

كانت عملية تفترض منتهى الثقة بين الاطراف الثلاثة جميعا وعاش الناس لسنين على هذا الاسلوب

ـ كان فعلا زمن الطيبين بحق ـ  تجاوزو جميعا محنتهم بطيبتهم وتعاونهم وثقتهم الا محدودة ببعض .

كان معظم  الكبار مسافرين للعمل في الخارج تاركين الوطن والاهل والعائلة والزوجة والولد ، لم يتبقى في البلد الا كبار السن وصغاره ممن ليس لهم القدرة على السفر والنساء ، كان هذا هو حال جميع العوائل العمانية اغتراب وهجر الوطن بحثا عن الرزق والعمل الذي شح وتعذر في الداخل .

وقد عظّم من قسوة هذا الاغتراب انقطاع عمان عن العالم فلا اتصالات ولامواصلات ولا طرق تربطها حتى بالدول المجاورة والرسائل البريدية في ظل هذا الوضع تستغرق شهورا طويلة لتصل الى الداخل او الخارج وبعد منع السفر للخارج تماما فيالسنوات الاخيرة قبل النهضة اصبح التواصل بينهم شبه محال مما ضاعف من قسوة ذلك على الجميع .

بادرت عمي معاتبا، مع ما  يخامرني من فرح بقدومه ، سألته لماذا تأخرت ياعم؟! ، لماذا لا أحد في المزارع  من الكبار اليوم؟ سيل من الاسئله طرحتها عليه دفعة واحده ، رد عليا بكلمات سريعه مقتضبه وكأنه يكلم نفسه؛ إنقلاب، السلطان قابوس تولي العرش في البلاد، سيخرج المساجين من السجون ويعود المسافرين للخارج من السفر ، والدك سيعود وعمك سيعود الجميع سيعود من السفر، وتركني بعد ان تطمن على وضعي ورجع مهرولا من حيث اتى.

لم أفهم شيئا من المقدمه التي قالها الا أن جملة والدي  سيعود من السفر هي ما زلزل كياني، ابي كان قد غادرنا اخر مره وعمري ثلاث سنوات تقريبا ، لا اتذكره شكلا  بوضوح بل طيفا بخيالي ، او انني انا الذي صنعت له هذا الطيف الخيالي من خلال كلام جدتي عنه .

لم تعد أشباح المزارع المظلمه ولا الدنيا كلها قادره على اخافتي بعد سماعي خبر رجوع والدي ، سرت الطمأنينه في كل كياني ، أنزلت العصى التي أهش بها على الحمار والابقار  وكنت شاهرا اياها بيدي عاليا  لاخافت الأشباح  اذا ظهروا لي وسط المزارع، وظللت اسرح بفكري كيف سيكون لقائي للمرة الاولي مع أبي حين يعود من الغربه ونحن لانعرف أشكال بعض، ومن منا سيتعرف علي الثاني اولا.

في منتصف الطريق وسط المزارع  لمحت طيفا اسود كالشبح يتجه ناحيتي مسرعا  لكن خوفي كان قد انقشع الآن وسمعت الصوت موجها ناحيتي ، كانت امرأة عجوز ترتدي ثوباُ اسود تحث السيرنحوي متسائلة بصوت لاهث قائلة : هل خرج المساجين ياولدي ان لي ولدٌ مسجون لم اره من سنين ، كانت اجابتي حاضرة وسريعة نعم ياخاله خرجوا والحمدلله واصلي مسيرك الى المدينة لتلتقي بابنك من جديد .

 وصلت إلى البيت فوجدت العائله كلها مجتمعه حول جهاز مسجل الاسطوانات (الفونغراف)، وكان عمي الذي سبقني مهرولا الى البيت  دون أن أفهم  لذلك سببا يدير مؤشر جهازالاسطوانات  الذي أصبح بقدرة قادر مذياع يبث اخبار إذاعة بي بي  سي  لندن العربيه ، لقد كان عمي يخفي علينا طوال الفتره السابقه ان هذا الجهاز الفونغراف يتضمن بداخله راديو، لا زلت اتذكر شراؤه له من احد العاملين بمحطة القاعده البريطانيه بصلاله منذ فتره بمبلغ يعتبر باهضا حينها وكنا مستغربين من ذلك ،لا شك انه قد دفع هذا الثمن الكبير كي لايكتشف امرالراديو ويعود لسجن الحصن مرة اخرى .

لم يعد اليوم جهاز الراديو ممنوعا في عمان ؛ هنا أحسست ببدايات التغيير الذي سيطرأ على حياتنا.

ذهبت صباح اليوم التالي مع الجموع الذاهبه نحو القصر، ذلك القصر الذي كنا نراه مخيفا صامتا تحول إلى  مكان جاذب لمن كانوا يخشونه بالأمس، واصبح حضنا للجميع، يتدفقون عليه يوميا  من كل نواحي ظفار، من شروق الشمس حتى  مغيبها، تعج ساحاته بكل أطياف المواطنين، بدء من ثاني أيام الثالث والعشرون من  يوليو1970م ، لقد أصبح هذا المواطن الذي كانت مقيده اقل مساحات حريته،  ممارس بنفسه اليوم لفك كل هذه القيود بدون استثناء، بل أصبح منفذا بنفسه للقصاص ممن يعلم بأنه ناله منهم ضررا بتجسسهم على حركاته وسكناته.

كنت طفلا متفرجا على هذه الثلاثة الايام الأولى من هذا الحدث الجلل من عصر النهضة المباركة ، كان الناس  يفدون  جماعات الي داخل ساحات القصرويتحركون افواجا، تارة  إلى جدرانه في أقصى غرب الساحه حيث يقبع سجن الحصن يضربون على جدرانه  وابوابه الحصينه بقبضاتهم وعصيهم ويسمعون من بداخله من المساجين كلمات مثل؛ ستطلعون من سجنكم، ستخرجون، قابوس جاء، قابوس المخلص أعتلى العرش ، نحن الشعب وتارة أخرى واثناء جولاتهم واهازيجهم في ارجاء الساحات يمسكون بتلابيب من يكون قد فاحت رائحته كجاسوس للنظام السابق ويصادفونه أمامهم.

يا الله، ياله من منظرا جلل في يوم جلل، فرحا واستبشار على كل الوجوه التي عادت الحياة مجدداوسرت البشرى في شرايينها .

من سمح لهم بذلك ياترى؟! من أعطاهم هذا الحق وهذه السلطه؟!

نحن في حصن ومقر حكم ، كان مخيفا ،  وهناك جيش وسيارات عسكرية مدججة بالسلاح ودبابات، لكن اليوم فوهات بنادقها ورشاتها ومدافعها هذه المره منحية للأسفل ، احتراما لهذا المواطن الذي طالما نكل به وذل اذلالاً.

ما أعظمك ياقابوس، نزلت اليهم  والتحمت بهم كتفا بكتف في أول يوم لك على العرش والقيت فيهم خطابك التاريخي، تركت لهم بعدها على مدى ثلاثة أيام مطلق الحريه ليفرغوا ما كان تراكم في صدورهم من ضيق وحزن ظلم سنين طوال , وشرعت لهم كل أبواب قصرك وساحاته  ليصبح ماكان بالأمس فيه طاردا  جاذبا لهم اليوم وليفرغوا ماتراكم منه من شحنات مآسي حزن عصر كئيب سببها خزين الام سنين طالت.

فوجئت وسط الجموع المحتشدة في ساحات القصر بدخول لوائح  ، نراها لاول مره في حياتنا تمثل مختلف مناطق صلاله وظفار، لوحة صلاله، لوحة الحافه،  لوحة الدهاريز، لوحة عوقد، ومختلف المناطق ، لوحات من قماش بيضاء كتب عليها بخط جميل باللون الأحمر عبارات المبايعه والتهنئه والمباركه للسلطان الجديد  “قابوس” ولانفسهم بهذه النهضهالمباركه بإذن الله .

رغم سني الصغيرالا أنّ إستيعابي لما يدور حولي وادراكي له انتقل فجأه  ليلتقط  ويحتفظ    بهذه اللحظات ويستوعب الحدث أمامه لتنساب اليوم هذه الذكريات بعد نصف قرن من الزمن،  لاشك انها كانت ايام استثناء من العمر واستثناء في عمان كلها تلتصق بالذاكره ولاتمتسح ابدا ، هذه اولىبدايات ماسطره قابوس فينا جميعا حتى نحن الصغار .

السلطان الشاب المنقذ المخلص الزعيم الذي أصبح  ملهم للشعب وشبابه ، بعد أن التحم بالأمس مع جموع المواطنين جنبا الي جنب ، ظل اليوم في قصره وعلى كرسي عرشه مع مستشاريه يدير ويدبر الأمور للمرحله القادمه على أصوات واهازيج وهتافات شعبه تصدح مجلجلة :؛

عاشت عينه قابوس

لارجعيه ولا جاسوس

هكذا بالدارجه الظفاريه، وبكل بساطه ودون ان يلقنوا او يختار لهم أحد ما يقولون ويعبروا به.

صلاله  جزء من عمان المترامية الاطراف، والمهام الجسام  لمن أعتلى عرش بلد عظيم بعضمة هذا الشعب المناضل وتاريخه العريق وجغرافيته المتنوعه التضاريس وعظمة عمان التاريخ ، لاشك ستكون عظيمه بعظم هذا البلد .

كان قدر صلاله السعيد ان يبزغ وينطلق من قصر الحصن بها  فجر عمان الجديد ، الثالث والعشرون من يوليو 1970المجيد ، كما كان قد انبثق اول مره ومن نفس هذا القصر في 18نوفمبر 1940م بميلاد قابوس القبس لعمان.

كانت البشائر والتوجيهات والأوامر تتوالى من القصر بمعدل الدقائق والساعات لا بالأيام والشهور، وتتلقاها جموع المواطنين المحتشده في ساحات القصر بفرح غامر وتهليل وتكبيرعظيمين نابعة من القلوب قبل الالسن ، كم  أتمنى اليوم لو كانت هذه المشاهد والمشاعر الانسانية الغامره موثقه صوت وصوره، لان القلم يعجز فعلا عن وصفها ، وتتوالى البشائر والاوامر السلطانية من السلطان قابوس

*عفي الله عما سلف

* ترقبوا خروج السجناء من سجن حصن صلاله وسجن جلالي مسقط

*السفر للخارج متاح للجميع ” لكن السلطان يدعوكم للمكوث لبناء عمان معا

* على من بالخارج العوده سريعا ، لنبني جميعا الوطن      يدا بيد

*الحريات مكفوله للجميع

* سنعلم ابناءنا ولوتحت ظل شجره

حتى ساعات اليد، لمن لديه ساعه يد، رغم قلتهم ،لم يغفل التنويه بإدارة عقارب ساعاتهم على التوقيت العالمي بدل ماكان يعرف بالتوقيت العربي او المحلي، إشارة واضحه لبدء تدشين دخول عمان من اليوم بل من الساعة عصر العالم   المعاصر الحديث ومن أوسع أبوابه

* اعدكم بأن أعمل بأقصى جهد ممكن لجعل عمان فى مصاف دول العالم المتقدمه

أي رؤيه واضحه وضوح الشمس   واي اراده جباره، وأي فكرا ثاقب واستشرافا للمستقبل كان يمتلكها هذا الشاب الملهم “قابوس” ، واي شئ كان اكثر من ذلك يريده شعب حرم من كل شي؛ تعليم، صحه،كهرباء، ماء شرب نظيف، طرق، مواصلات واتصالات، شعب كان يعيش عزلة دولية وانقطاع تام عن العالم من حوله ويقبع في مستنقع الممنوعات بالجملة ، ممنوعات ماانزل الله بها من سلطان :

ـ ممنوع الراديو

ـ ممنوع السيكل

ـ ممنوع النظارات الشمسية

ـ ممنوع الدراسة خارج نطاق المدرسة السعيدية

ـ ممنوع الخروج من المنزل بعد صلاة العشاء

ياسبحان الله  القصر الطارد أصبح جاذب بين ظهيرة يوما وعصرها.

كان السطان يطل بين الفينه والأخرى من شرفة القصر على جموع المواطنين المحتشده بساحاته والابتسامه تعلو محياه ،يحيئ جموعهم المغتبطه

فرحا ويشاركهم هذه الفرحه ويلقى على الصغار من الشرفه بريالات ( ماري تريزا الفضيه ) التي كانت عزيزة حتى على الكبارومخزنة في القصر وقطع الاقمشه وغيرها ، كان يريد ان يعطي هذا الشعب المحروم من كل شئ أي شيئ يصل الي يديه وعلى مدى الثلاثه الايام الأولى من الحدث، وقبل أن يغادر السلطان قابوس الي مسقط العاصمه لإدارة زمام عمان من هناك، من قلبها النابض .

كانت هذه مجرد مقتطفات وشذرات كما أسعفتني بها الذاكره الصغيره حينها وهي ليست الا غيض من فيض مما شاهدت وشاركت وعشت طفلا في هذه الايام الثلاث الاولى من اطلالة قابوس على عمان وبزوغ فجر نهضتها المباركة على يديه .

كنا قبل الثالث والعشرون من يوليو 1970م ، نصحى كل يوم على خبر هروب عدد من الشباب ممن بلغو سن الرشد ومقتل ووفاة بعض منهم ، كانوا يهربون الى خارج صلالة واضعين حياتهم على اكفهم لتجاوز اسوار الشبك المزدوج الذي سوّر حولها من البحر الى البحر ونيران دورياته الراجله والمحموله أو مصارعة أمواج بحر العرب العاتيه ليلا لساعات طوال للوصول إلى خلف السور شرقا او غربا سباحة مستعينين بثمار جوز الهند اليابسه التي تطفؤ على سطح الماء (كزابه ) وربطها بحبال الياف النارجيل تحت صدورهم.

اصبحنا خلال أيام وأشهر من ال23 من يوليو 1970نرى ونسمع عن عشرات العائدين من الجبال من الثوار يسلمون أسلحتهم ، او من خارج الوطن هارعين لحضنه الذي أصبح جاذبا وللمساهمه في بنائه ورفعته .

إن أي تغيير في الحياه لابد له من زمن لتحقيقهوالحصول عليه على أرض الواقع وهذه من سنن الحياه.

بلد مترامي الاطراف متنوع التضاريس صحاري وجبال وشعب معدم بلا أدنى حريات متاحه، بلا مدارس  وتعليم ، بلا مستشفيات  وصحه ، فقرا في كل شئ، ترزح تحت وطأة الثالوث المميت ؛ الجهل والمرض والفقر. لاكهرباء، عدا ضوء فوانيس الكيروسين الخافته، لا ماء شرب نظيف، لا مواصلات لا اتصالات وانقطاع تام عن العالم المتحضر وتحت كل لا من هذه عشرات اللاءات يقابلها عشرات الممنوعات :

ـ ممنوع السفر

ـ ممنوع الخروج من المنزل بعد صلاة العشاء

ـ ممنوع استيراد أي شئ يتحرك او ينطق

السؤال الذي يتبادر لذهن من لم يعايش هذا الحال  هو لاشك سؤال مشروع ؛ كيف تم هذا التغييروبهذه السرعة ؟! كيف تبدلت الصوره في زمن لايعتبر قياسيا بمقدار الزمن ، بل يخرج تصنيفه من ضمن المقاييس المتعارف عليها.

هنا يتجلي الهام هذا المنقذ المخلص “قابوس” .

نحن في  يوليو  ، اول تطبيق لمقولة جلالته سنعلم ابناءنا ولوتحت ظل شجره، بدأت من المدرسهالسعيديه الوحيده بصلاله وظفار قاطبه ضمن ثلاث مدارس فقط في عمان كلها، واحده في مسقط واخرى في مطرح ، يسمح لكل منها بقبول مالا يزيد عن خمسة وعشرين   طالب في العام الدراسي الواحد وبالانتقاء المباشر من السلطان للدراسة بها لمدة ست سنوات فقط  (ابتدائي) بغية تخريجهملغرض الحاق مختارين من بينهم للعمل لدى الحكومه.

بعد شهرين من يوليو الحدث، بدأ العام الدراسي الجديد وصدرت التعليمات باستيعاب المدرسهالسعيديه بصلاله لكل من هم في سن الدراسه دون استثناء، وهكذا كان الحال في السعيديتين الاخريين .

كنت ضمن أول فوج الطلبه الذين انضموا لسعيدية صلاله، رصصنا رصا في الفصول المتاحة بها وفي ممراتها احيانا ،لم يكن بالامكان انشاء فصول جديدة في هذه الفترة الوجيزة ، تم التوسع تدريجيا في الفصول وفي العام الدراسي الثاني من عصر النهضة انشأت فصول جديدة في الجهة المقابلة لساحة المدرسة وانشأت مدرسة النور للبنات في صلالة واقيمة خيم التدريس في البوادي واستغلة الاشجار الكثيفة للتدريس تحتها في الارياف وطبقة مقولة جلالته (سنعلم ابنائنا ولو تحت ظل شجرة ) عمليا على ارض الواقع .

كانت اولى معيقاتنا لدخول المدرسة الدشداشه البيضاء شرط التحاق بالمدرسه ، لم يكن من في سننا يلبسها آنذاك  الا في الاعياد ، كان لباسنا المعتاد نحن الصغار، الايزار او الوزار بالدارجه والقميص ويسمي أيضا المصدره ، كان عدد الخياطين في السوق الوحيد في حصن القصروالذي كان يفتح أبوابه لأوقات محدده على فترتين صباحيه ومسائية ويغلق قبل غروب الشمس لايمكّن هذا العدد الكبير الذي تم قبوله من الطلبة من الحصول على الدشاديش لقلة عدد الخياطين بالسوق الذين كانوا لايتجاوزون عدد أصابع اليد الواحده

، كان الحذاء أيضا شرط اساسي آخر ولايوجد بالسوق العدد الكافي من احذية “الزنوبه” التي كانت متوفرة حينها تكفي الجميع ، فقد كانت المدرسه السعيديه تعتبر مؤسسه في منتهى الانضباطيه والنظام.

كانت توجد عدة مؤسسات رسمية بالدولة وهيالجمرك (الفرضه) وهما ربحيتان تدران دخلا على الدولة بعد ان تعذر او صرف النظر عن اموال زكاة المواشي ، اضافة الى مقر الوالي والقاضي اللتانكانتا تشكلان مجتمعين مايعرف بالبرزه ،هذا هو الجهاز الحكومي كله عدا مايتبع القصرمن مؤسسات والتي منها كانت تدار عمان كلها شمالا وجنوبا .

اتذكر انني اخذت اكثر من شهر حتى تعودت على لبس الحذاء وكنت انساها يوميا بعد سماع جرس انتهاء اليوم الدراسي تحت مقعد الفصل في المدرسه وارجع حافيا الي البيت دون أن أشعر بذلك لمسافه ليست بالقصيره، ولا اتذكرها الا في صباح اليوم التالي عند الاستعداد للذهاب إلى المدرسه مجددا ، خوفا من عقاب  المدرسين الذين كانوا يفتشون طابور الصباح يوميا تفتيشا دقيقا مركزين على  أظافر اليدوالحذاء  ويعاقب فورا من يخل بذلك ، كان معظمنا عند وصوله للمدرسة صباحا يتسلل اولا الى الفصل لينتعل زنوبته قبل الاصطفاف في الطابور  .

الصحه؛ لاتوجد الا عياده طبيه صغيره واحده بصلالة وظفار قاطبة تقع شرق سورالحصن علىالطريق المؤدية الى بوابة القصرالخارجية  بها طبيب وعدة معاونين دربهم بنفسه والعلاج فيها بمقابل ، تم فورا فتحها للعلاج بالمجان ، وعززت بطواقم طبيه عسكريه .

وفي خلال اشهر من ذلك تم تاهيل مبنى  قديم يقال انه كان قد شيد ليكون عيادة كبيرة او مستشفى صغير الا انه صرف النظرعنه مع اشتداد الصراع في الجبل واصبح هذا المستشفى بعد الترميم والصيانة مكتملا  باقسامه الرئيسية المختلفة  وزود باعداد اضافية اكبر من الاطباء والجراحين العسكريين من دول شقيقه وصديقه وسيارات إسعاف عسكريه لمعالجة وإجراء عمليات جراحيه للعديد من الحالات المزمنه التي لم يكن أمامها مجال سابقا للعلاج سواء البقاء في المنازل مجترين الآلام بانتظار القدر.

لقد خلفت السنين السابقة اسقام وامراض كثيرةومزمنة كان لابد من ضرورة الاسراع بالتطبيب والعلاج مع الاستمرار في التوسعه والاضافة عليه حتى انجز مستشفى قابوس بصلالة 1977م  بارقى المواصفات العالمية آنذاك .

هكذا كانت همم قابوس والتي تشربها شعبه وتحولت  الى انجاز يلو الاخر ، ملحمة بناء متواصلة لقائد وشعب تستبق الزمن لتعوض مافات من السنين .

في خلال أشهر قلائل من يوليو 1970م   تم البدء في حفر آبار المياه وإقامة نقاط توزيع مياه الشرب النظيفه في معظم الاحياء الاحياء السكنية وتعزيز محطة كهرباء الحصن الذي كانت تمد الحصن ومرافقه فقط بالاناره، بمولدات اضافيه ومددت اسلاك الاناره الي المناطق القريبه من الحصن على كافة الاتجاهات كالحافه وصلاله الوسطى وبدء بانارة المساجد .

ـ كل ذلك كان بتوجيهات سامية مباشرة وفورية من السلطان قابوس ـ ، لاشيئ تنظيري اعمال تتحدث عن نفسها على الواقع ، كان يقدم افكاره  على شكل مشاريع كانت صغيرة ومتواضعة في البداية  لكن المواطن جنى ثمارها فورا وتوسعت وكبرت مع الايام ،  لقد قدم الاعمال على التنظير الذي قد سئم المواطن من انتظار تنفيذه طويلا .

تلت المساجد المنازل في الانارة منطقة تلو المنطقه، وانشئت الادارات الخدميه لتقديم الخدمات للمواطن وادخلت خدمات الهاتف الارضي .

كل هذه الخدمات التي قدمت لاشباع حاجات المواطن العصرية الاساسية  كانت بالتزامن مع نشر المكتبات التثقيفية العامه الصغيره للقراءه بالأحياء السكنيه التي زودت بإعداد من الكتب والمجلات الرصينه ، كانت بالنسبه لنا نحن الناشئه والشباب المتعطش للمعرفه التي كان محروما منها تماما منابر إشعاع فكري وباب انفتاح على المعلومه والثقافه والفكر، كما كان للسينما المتنقله التي تعرض بين الفينه والأخرى في ساحات وميادين صلاله والمناطق التابعه لها ايضا دور فعال في ذلك ، كنا نترقب بشغف يوم العرض المحدد في اي ساحة في اي منطقة كانت تعرض فيها هذه الافلام التوعويه والتثقيفيه التي فتحت علينا كصغار وشباب افاقاعلى العالم من حولنا والأمل بوصول بلدنا الحبيبة عمان الي ذلك بقيادة  سلطان التغيير.

كل هذه الخطوات والمشاريع الاساسيه وغيرها توالت وتواصلت وبوتيره سريعة وعاليه حتى أصبح الجديد الذي نصحو عليه في كل يوم سمة تلك المرحلة بجدارة .

أصبحت المنجزات معجزات في غضون العقد الأول للنهضه المباركه، شوارع رئيسية  واساسية ومطارات وكل ملتزمات الحياة الكريمة وفي زمن قياسي غير مسبوق.

وكان هذاهو الحال الذي ينطبق وبالتساوي على كل مدينة رئيسية في عمان كلها حتى شملت الجميع .

قابوس القبس الاسم على مسمى لم يشيد ويبني عمان الارض بوتيره لم يسبق لها مثيل في عصرناالحالي ، ومن لاشئ لكل شيئ، وخلال عقدا واحد من الزمن بل أنار ألافئده والعقول  ومحى  جهلها وأروى الأبدان وداواء سقمها وأنار الأبصار وفتح القرائح.

على مدى عقد السبعينات، وحتى ابتعثت مع بقية اقراني  الي الدراسات الجامعيه في مختلف دول العالم ، كان السلطان قابوس – طيب الله ثراه-  يدير البلاد تارة من مسقط وتارة من صلاله حيث كان الصراع مع تخلف بقايا جبهة تحريرعمان والخليج العربي على اشده في جبال ظفار بعد توغل الافكار الشيوعية الماركسية في اوساط قياداتها ودعم الجارة عدن وحزبها الاشتراكي الحاكم (اخر معاقل الشيوعية في العالم العربي) كنا في الداخل ننهل من منابع الشريعة الاسلامية السمحاء ونلتهم الفكر والثقافه والمعلومه والرأى والرأى الاخر ونعمل العقل في كل ذلك.

لم يكن صراع السلطان قابوس، المحب لبلده وشعبه، واول الثائرين فيها حين كانت تستدعي الثورة فقد كان اول الثائرين على الظلم الذي كان ينخر في جسد هذا الشعب وخطط وعمل على ازالته ورفعه عن كاهل شعبه وكل ذلك في صمت .

ان الكلمات الساميه لجلالته في تلك المرحله والتي حفظناها عن ظهر قلب تظهر ما واجهه جلالته من معوقات لهذه النهضة المباركة الذي ينهل من معينها احفادنا اليوم وهذه اكبر امنيات كل اب ورب اسرة :

*سنبني عمان بيد وبالاخري نحمل السلاح”

* ان الشيوعيه العالميه ،التي اصيبت في كبريائها، وحد من غلوائها، تعتبر عمان اليوم الرمح الذي طعنها في الصميم”،

*إننا شعبا يعمل بصمت، يبني بلده بعزم وإصرار.

كان جلالته بنفسه مع جنوده البواسل ورجال الفرق الوطنيه الشجاعه يدير تلك المرحله بشقيها بناء الوطن والذود عنه بمنتهي الاقتدار والوثوق بالله ، ويقود تلك المعارك احيانا ، فقد شارك بنفسه في بعض هذه المعارك ، كتحرير مدينة الحق في جبل طاقه ، توالى بعدها تحرير كافة مناطق جبال ظفار وصولا الي ضلكوت الحدوديه مع اليمن الجنوبيه سابقا حتى اعلن  رسميا انتهاء الصرع  في ظفار ذلك الجزء الجنوبي الغالي من عمان في العام  1975م.

لم تكن الطريق ممهدة وميسره، ولكن العزيمة كانت أقوى لدى سلطان قابوس ، الصراع في بلدنا أصبح عالميا، ويدار على ارضنا بين قطبيئ العالم أنذاك ، الحرب البارده كانت لاتزال في أوجّها، وتمحورت وتمركزت بعض افرازاتها لدينا واكتوينا بنار ذلك واصبحت تنغص مسيرتنا الظافرة ونهضتنا المباركة ، لكنها الحكمه القابوسيه التي قيضها الله وقدرها لنا، فخرجنا منها تماما بعد خمس سنوات ونحن أقوى واشد بالنصرين، نصر منجزاتنا العصريهالتي تحققت واكتسبناها خلال تلك السنوات الخمس على ارضنا ووحدة شعبنا العماني في الداخل الذى كان شتات ، وهذه الوحده الوطنيهالعمانيه التي تحققت بنجاح باهر على اياديه والتي لو لم يكن للسلطان قابوس من فخر الا هذه لكفته فخرا

خمس سنوات فقط  زمن لاتقاس به الدول وانجازاتها الا ان قابوس بنا لعمان قاعدة  بنيوية حضارية راسخة ودافع عن بلده ومقدراتها وارثها الاسلامي والحضاري وعالج وطبب وانار عقول شعبها ، عادبعدها كل من بالخارج (كل هذا نحسبه في عظمة هذا الشعب ) الى الداخل ، وتفرغنا جميعا كعمانين نواصل الانطلاقه كوحدة ولحمه واحده، لم يعد بيننا من ينغصها علينا، أو من خارجنا يجد ها ذريعة للعمل على تشتيتنا واعاقة نهضتنا المباركة باذن الله.

منظر موكب جلالته وهو يقوم بسيارته بنفسه  في مقدمة الموكب أصبح مألوفا للمواطنين يقابلونه في مختلف المناطق والاحياء في اوقات الليل والنهار.

كان يستوقفه اي منظر يرى فيه شذوذ او تعارض مع الذوق العام نتيجة لتسارع الانجازات الحديثة من مشاريع وخدمات شبه يومي وبوتيرة متسارعة  فيأمر بتعديله وتغييره ، حتى اللوحات والمسميات التجارية اذا لاحظ نشاز في مسمى او تصميم  يأمر بالتعديل او التغيير ، كان ذلك في السنوات الاولى للنهضة وقبل ان تكتمل الادارات الحكوميه المختصة للتنظيم والاشراف على ذلك ، حنى مسميات المناطق والاحياء الجديدة يعطيها اسماء في غاية الروعة والابداع والدلالة ، كان معلما وقدوة في كل شي وانعكس ذلك كله ايجابا على المواطنين عموما والشباب خصوصا الذين كان يحرص اشد الحرص على توجيههم لتنشئتهم التنشئة الصحيحة والصالحة لإيقانه بانهم مستقبل عمان ، لم يكن قائدا لتغيير واقع فقط بل مستشرفا للمستقبل وهذه صفات السلطان الزعيم.

احيانا كان يذهب بدون موكب، ليطلع عن كثب وليطمئن على سير خطوات هذه النهضه الناشئة منذ بدايتها بنفسه ،كان يشاهد مرات عديدة بعد منتصف الليل في سيارة عادية خاصة وبدون موكب لمعاينة موقع ما للتخطيط له ، وقد شوهد ايضا يقود سيارة تاكسي ملثما يخفي وجهه بالمصر يتوقف لفئة معينة من المواطنين ، شخص مسن او اسرة بسيطة ليوصلهم الى المكان الذي يريدون التوجه اليه ويستغل ذلك في الحديث معهم ببساطة ، فقد كان يتحدث بالدارجة الظفارية القحة والجبالية بطلاقة كما يتحدث بلهجة شمال عمان ليتعرف منهم مباشرة وعن كثب اوضاعهم المعيشية واحوالهم وآراؤهم في الخدمات التي تقدمها الحكومة ، كان يعيش كل احوال المواطنين وكأنه واحد منهم ليطلع بنفسه ولكي لا ينقل له مسؤول صورة ليست حقيقية ومطابقة لواقع المواطنين ، كان يعرف معظم الموطنين باسماؤهم الشخصية او عائلتهم او قبيلتهم ، فقد كان  يرافقه دائما في سيارته بعض كبار السن ممن يعرفون الناس ويسألهم عن ذلك ، كان في غنىًعن كل ذلك  الا انه جبل عليه.

كانت زياراته الغير مرتبه مسبقا الى الادارات الحكوميه التي تأسست حديثا، المدارس ألمستشفىات،الادارات الحكومية الاخرى ، إلى الطلبه في فصولهم والمرضى على اسّرتهم، يأمر هنا بجديد ويوجه هناك ويعلم ويربي هنا هناك ، زيارات مفاجئهالى الاسواق والاستماع لكل من لديه شكوى عن الاسعاروالاستماع  لكل من لديه شكوى او مظلمه، وكأنه  في سباق مع الزمن ليوفي بوعده لشعبه “سأعمل بأقصى سرعه ممكنه لجعل عمان في مصاف دول العالم المتقدمه” ووعده لهم بالرخاء والعيش الكريم.

استوقف موكبه في احد المرات احد الموطنين وكان ذلك في الشارع المقابل لبيتنا ، اغتنم احد جيراننا الفرصة فتقدم ناحية سيارته وسلم عليه ووقف خلف الشخص الذي كان يتحاور معه منتظرا دوره ، كان جارنا هذا نحيل البنية وقد خرج من بيته حافيا على استعجال وكان اسفلت الشارع شديد السخونة واخذ هذا يرفع احد رجليه الى اعلى كل مرة ليقيها لدغة الحرارة فسأله السلطان ماذابك ؟ اجابه الارض تحتي شديدة  السخونة يامولاي .

ابتسم السلطان وأومأ لاحد حراسه المرافقين ليتقدم ويضع حذاؤه تحت ارجل جارنا حتى فرغ من عرض مطالبه .

تشرفت شخصيا بلقاء جلالته كغيري من المواطنين مرات عديده، نسلم عليه ونهنيه بعد صلاة كل عيد يقضيه بيننا وطوال مدد اقامته بصلالة لادارة البلاد من هنا ، واتذكر عندما زار جلالته جمهورية مصر العربيه أثناء دراستي الجامعيه هناك في مطلع الثمانينات، شرفنا كعادته في اي زياره خارجيه يقوم بها لزيارة أي بلد يدرس به طلبه عمانين للسلام عليه،تم نقلنا جميعا رغم كبر عددنا آنذاك الى مقر اقامة جلالاته بقصر القبه بالقاهره، كنا اكثر من الف طالب وطالبه مبتعثين للدراسة هناك ، سلمنا علينا مصافحة فردا فردا،وامر لنا بمكرمه منحة شهر دراسي لكل منا وهذا كان دأبه في اي بلد يزورها.

من احد المواقف لي بجلالته في صلالة ، كنت اقود سيارتي مع زميل في شارع قابوس بمحاذات سور البليد نتجاذب اطراف الحديث وكنت اسوق بسرعه منخفضه جداً لقلة عدد السيارات في الشارع وكان الوقت قبيل الغروب ، سمعت صوت بوق سياره من خلفي  حسبته اول الامر احدا يريد التجاوز فأومت له بيدي اليسرى ليتجاوز لكنه لم يتجاوز ولم انظر إلى المرآه حينها، تكرر صوت البوق واستمر الأمر على هذا المنوال عدة مرات ولم الحظ احد يتجاوز، نظرت بعدها في المرآه الخلفيه لأرى مقدمة سياره بلوحة  بدون أرقام نعرفها كلنا، خلفي تماما، تيقنت انه السلطان فركنت سيارتي سريعا الى اليمين ، أوقف جلالته سيارته ملاصقا لسيارتي  ونظر الي قائلا :

الا تعلم أن السواقة ببطء في شارع عام أخطر من السرعه؟!

طلبت العفو من جلالته فرفع يده مسلما وهو يقول انتبه مرة أخرى، كان السلطان والمربي والمعلم لنا، الاغرب من هذا وذاك كنا ليلا شباب متجمعين على الشاطي بين الحافه والدهاريز

توجهت نحونا احدى سيارات حراسة الموكب ونزل الينا احد جنود الحرس يسالنا هل شاهدتم سيارة صاحب الجلاله تمر من هنا؟!!!

هكذا كان كما عهدناه القائد المتفقد لاحوال شعبه ، ليس في جيلي من لم يقابل او يلتقي مرة بالسلطان قابوس كان يعيش وسط شعبه وبينهم ويعرف الكثير منهم باسمه او باسم عائلته او قبيلته .

كنا كشباب ، غرتنا الطفره والنقله النوعيه والسريعه على العالم ، فلبس بعضنا البنطلون الضيق تقليدا وأطال البعض شعر راسه ، ولولا متابعة جلالته وردعه المباشر لنا واستيقاف البعض منا وتوبيخه وأحيانا العقاب لكنا اتخذنا مسلك آخر ، فقد شاهدته مرة يأمر الحرس بحلق شعرا طويل كالخنافس لاحد الشباب.

هكذا كانت بداية النهضة وهكذا اسس السلطان الملهم قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد القاعدة العريضة الصلبة للنهضة المباركة التي بني عليها تباعا هذا المنجز العظيم لعمان الحديثة عمان النهضة وربط حاضرها المجيد بماضيها التليد على مدى خمسون عاما .