مُواطن من كوكب زُحَل

0
1784

محمد بن علي الوهيبي

ما أسجله في السطور التالية يتعلق بأحداث جرت في عالم بلا خرائط أكتب لكم عن كوكب بعيد يُسمى زُحَل وما جرى فيه من أحداث لا علاقة لها بكوكبنا الأرضي وإن حدث تشابه فهو بمحض الصدفة ليس أكثر.

يمكننا أن نطلق على زُحَل مسمى كوكب الغرائب نظرًا لأحداثه وظواهره العجيبة، يقال أن اسمه مشتق من الجذر “زَحَل” بمعنى تنحّى وتباعد، كما يُقال إنه سمي زُحَل لبعده في السماء.

ذات يوم وبواسطة التلسكوب الفضائي المرئي والمسموع سمعتُ ورأيتُ أحد مواطني هذا الكوكب ينشد بالعامية الزُحَلية أبياتا شعرية تتشابه مع ما كتبه “بيرم التونسي” من شعر :

“قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ هوى حبيبٍ يُسَمّى البنك الوطني الزُحَلي
أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ يعدّهـا عاملٌ البنك الوطني الزُحَلي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى طيف الخيالِ خيال البنك الوطني الزُحَلي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ والنصفُ أتركُه للبنك الوطني الزُحَلي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ خوفَ اللصوصِ وخوفَ البنك الوطني الزُحَلي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا في الصيفِ إلاَّ كسوتُ البنك الوطني الزُحَلي”

ولشدة فضولي قررتُ التوجه إلى هذا الكوكب في زيارة خاطفة على متن مركبة فضائية للتعرف عليه وعلى شعبه العجيب عن كثب، فوجدتُ أحد المواطنين الزُحَليين مستنداً على أريكة في أحد المقاهي الزُحَلية وكأن
“صُروفُ الحادِثَاتِ أنَاختْ بِبابِهِ”

ألقيتُ عليه السلام الزُحَلي لكنه كان بعيدًا وبعيدًا جدًا وكان “عبدالحليم حافظ الزُحَلي” يملأ المكان غِناءًا وطربا ويصدح برائعة “نزار قباني الزُحَلي” قارئة الفنجان : (يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءاً للمحبوب

بصّرت ونجّمت كثيراً
لكني لم أقرأ أبداً فنجاناً يشبه فنجانك
بصّرت ونجّمت كثيراً
لكني لم أعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزانك

مقدورك أن تمضي أبداً في بحر الحب بغير قلوع
وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع
مقدورك أن تبقى مسجوناً بين الماء وبين النار
فبرغم جميع حرائقه، وبرغم جميع سوابقه
وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار
وبرغم الريح وبرغم الجو الماطر و الإعصار…..)

بعد هذا المقطع الغنائي الغارق في الشجن والحُزن التفت إلي قائلا وهو يجرُ نفسا طويلا محملا بثقل السنين مرحبا بقدومك تعال واجلس أيها الغريب! قلت له أيها المواطن الزُحَلي وكأني أراك تعيش كلمات هذه الأغنية واقعًا وتحمل أطنانا من الهموم ؟!
قال سأحكي لكَ بالتفصيل دعني استرسل في الكلام لعلي استطيع بهذا الهذيان أن اهدأ قليلا وأزيل عن كاهلي بعض الكدر !!
قلت له تفضل كلي آذان صاغية
قال وكأنه يزيح جبل زُحَلي من الهموم : أنا أحدْ الذين تم إحالتهم إلى التقاعد مؤخرًا وكان أمامي قبل بلوغ الستين وهو سن التقاعد المنصوص عليه حسب القانون الزُحلي زمن لايقل عن ثمان سنين زُحَلية سبق وأن برمجت كل هذا في الروزنامة الزُحَلية ولا أخفي عليك بأنني مُقترض من البنك الوطني الزُحَلي مبلغًا من المال ولا شك في أن مُعظم من يضطروا إلى الاقتراض من البنوك لأغراض شتى، منهم من يقترض ليغطي نفقات التعليم والسكن والمعيشة… الخ

وفي المُفكرة دونت بأنني سأتمكن من سداده قبل بلوغي سن الستين لأستمتع بعدها بمرحلة التقاعد تماما مثل مواطني الكواكب الأخرى ممنيًا القلب براحة البال وصفاء النفس تحت وارف الشجر بين خرير المياه وزقزقة العصافير الزُحَلية منصتا لحفيف أوراقه سارحاً في الملكوت الزُحَلي محاطا بما تشتهي النفس إلا أنني صحوت ذات يوم على وقع كابوس زُحَلي ثقيل يخبرني بأنني مُقاعد وعلي أن أتعايش مع هذا الواقع الجديد وعليّ أن أبحث لي عن حلول مناسبة لتغطية التزامات الحياة بما فيها سداد ديون البنك، وتكالبت علي الهموم من كل حدب وصوب، وقلتُ في نفسي كيف أتمكن من مواجهة كل هذا؟! وكيف سأعيد ترتيب الأولويات ؟! وأي الأولويات أولى ؟! ووسط هذه الأمواج العاتية من الأسئلة يصلني خبرًا أسعدني كثيرا وهو تخفيف الضغوطات التي يواجهها المخلوق الزُحَلي المُحال إلى التقاعد وامتثالًا لهذا الخبر أطلق كبير بنوك زُحَل برنامجاً لمساعدة المقترضين ويخفف معاناتهم فرحتُ كثيرًا وأيقنتُ بأن كل شيء على ما يرام وأن الحياة لازالت ممكنة في زُحَل وبأن المياه ستعاود الجريان وبأن العصافير الزُحَلية الجميلة ستعاود الغناء.
وبعد أن أكمل هذا الكلام المُبهج والسعيد جرَ نفسًا طويلاً ومن طول النَفَس الذي جرَه خشيتُ أن تزهق روحه الزُحَلية وتصعدُ على الفور إلى بارئها وخشيتُ عليه من الهلاك فقلت له على رسلك أيها المواطن الزُحَلي!! أنت قبل قليل قلتَ لي بأن الأمورطيبة ومُفرحة ما الذي جرى؟! من فضلك أكمل حديثك! ، قال ذهبتُ إلى البنك للجلوس مع المختصين لإعادة جدولة الديون، وتم إفادتي بأن الفوائد ستكبر وتتضاعف مع إطالة مدة القرض بمعنى أن ما يسمى بمكافأة نهاية الخدمة سيتفرق دمها على شركات التأمين الزُحَلية وستدفع أكثر وأكثر !! هذا إذا رغبت في إعادة الجدولة!! أو عليك أن تصبر وتتحمل ما بقي من السنوات المحددة سلفاً لسداد الدين وتدفع كما لو كنت على رأس عملك وهذا الذي ننصحك به قلت له المدة المتبقية على السداد ليست قليلة لأتحملها !! بل تزيد عن “6” سنوات زُحلية!!، ومبلغ القسط الشهري كبير بالنسبة لمعاش التقاعد ويكاد لا يبقي منه شيئًا!! لكن أنتم كيف تنظرون إلى التوجيهات الصادرة بالتخفيف والمراعاة ؟! وأين ذهبتم بها ؟!

فأجابني المُوظف الزُحلي المختص من فضلك لا تُدخلني في السياسة الزُحَلية!! وهذا المتبع لدينا في التعامل مع حالتك والحالات المماثلة حسب التعليمات الصادرة من المسؤولين الزُحَليين .
وما ان انتهى حديثه حتى
قفز إلى الواقع المُعَاش هذا البيت الشعري “للزُحَلي البردوني” :
“ترقـى العـار مـن بيـعٍ إلـى بـيـعٍ بــلا ثـمــنِ ومـن مُستعـمِـرٍ غــازٍ إلـى مُستعمِـرٍ وطـنـي”

وبعد كل هذا، ولأنه لا يوجد لدي ما أقوله لصديقي الزُحَلي تركته ملقاً على تلك الأريكة في ذلك المقهى كعصفور سجين في كوكب بعيد وقارئة الفنجان الزُحَلية تواصل قراءة الطالع :
(..وسترجع يوماً مهزوماً مكسور الوجدان .. وستعرف بعد رحيل العُمر
بأنك كنت تطارد خيط دخان)