خمسون عاماً عمانياً

0
906

د.هاشل بن سعد الغافري

أستاذ مشارك – علوم تربوية

1

يضع علم نفس النمو سن الخمسين في مرحلة الرشد والنضج وهي من أطول مراحل العمر حيث تمتد من سن الثلاثين وحتى الستين.والمجتمعات كالأفراد تتأثر بخصائص العمر ومراحله فينشأ المجتمع وليدأ ثم يقوى بفتوته وشبابه ثم يشيخ ثم يموت فيخرج من صلبه مجتمع جديد يحمل الخصائص نفسها لكنه يلعب أدواراً مختلفة تتناسب وطبيعة المتغيرات الحياتية الجديدة .

2

استقبل العالم مولوداً جديداً اسمه “عمان الحديثة” وذلك في الثالث والعشرين من يوليو المجيد لعام 1970،وقد خرج هذا المولود السعيد من رحم “عمان المجد والتاريخ” التي لم يزل نسلها العظيم مستمراً منذ الألف الخامس قبل الميلاد.جاء هذا المولود الجديد “عمان الحديثة” ليقدم نقلة نوعية لمجتمه ويشكل نموذجاً خاصاً به يتسم بالهدوء والثبات في زمن اتسم بالراديكالية والتغير المتسارع.

3

عاش المولود الجديد”عمان الحديثة” في كنف شاب قارب الثلاثين من العمر أخذ على نفسه عهداً أن يتولى رعاية هذا المولود فكرس لذلك جهده وفكره ووقته متابعاً وموجهاً ومرشداً ،مقرراً أن يبدأ أولى خطواته بالتعليم ،وأعلن في ذلك مقولته الشهيرة ” سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر”،وبالفعل بدأ جيل السبعين تعلمهم تحت ظل الشجر والخيام وبيوت سعف النخيل .هذه الخطوة شكلت أثراً كبيراً في حياة المجتمع العماني الجديد .وبحمد الله وفضله كنت قد حظيت بمعايشة تلك الحقبة الزمنية كغيري من أطفال ذلك الزمن الجميل الذي برغم صعوبة تضاريسه وقسوة نظاميه الاجتماعي والاقتصادي إلا أنه كان يحمل مفردات اجتماعية عظيمة كالصدق والأمانة والإخلاص والتعاون والبساطة في القول والفعل حيث كان المجتمع حينها خالياً من كل المفردات المفاهيمية المعقدة التي سيطرت على المجتمع البشري فسلبته إنسانيته إلى من رحم ربك.

4

تولى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس عليه رحمة الله ورضوانه مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو المجيد لعام 1970 مؤسساً دولة عمانية حديثة معلنا بداية عصر جديد وفق منهج سياسي معتدل؛ ففي السياسة الداخلية كان المنهج واضحاً في التركيز على الوحدة الوطنية وقطع جذور الصراعات المذهبية والقبلية والطائفية فجميع المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات كما نص على ذلك النظام الأساسي للدولة. كما قام منهج السياسة الخارجية على مبادئ الصدق والسلام والتوازن والتعايش الدولي واحترام حقوق الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وكان نتيجة هذا المنهج المعتدل أن اجتمع الناس في داخل الوطن على حب هذا الأب القائد وفي الخارج نال التقدير والاحترام على المستويين العربي والدولي.

5

انتهجت حكومة جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه خططاً خمسية  حيث بدأت الخطة الخمسية الأولى في العام 1976 وكانت تلك الخطط تمثل النمو التدريجي للتنمية المستمرة لقطاعات الدولة كافة حيث كان التركيز في عقد السبعينات على التأسيس ووضع اللبنات الأولى في بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها وتم استثمار كل المقومات البشرية والمادية الممكنة في هذا الجانب أما عقد الثمانينات فقد ركز على البناء والتعمير ففيه  تم افتتاح جامعة السلطان قابوس والكليات المتوسطة والمعاهدالصحية والتجارية والمهنية كما تم افتتاح المستشفى السلطاني ومستشفى القوات المسلحة وغيرها من المنشآت في قطاعات مختلفة ،وكان عقد التسعينات يمثل عملية التحسين والتطوير في استكمال البنية التحتية، والعقدان الأخيران في مسيرة التنمية العمانية يمثلان مرحلة النضج في النمو؛ فالأطفال الذين درسوا الصف الأول في عقد السبعينيات أصبحوا في العقدين الرابع  والخامس قيادات عسكرية وأمنية وأساتذة جامعيين في مختلف التخصصات وأطباء استشاريين وخبراء ومستشارين، وهذا يعني أن منهج التنمية سار بخطى متسارعة ومتوازنة.

6

التغيير سنة كونية تسري على الفرد والمجتمع على حد سواء. وهو سلسلة من المراحل التي من خلالها يتم الانتقال من الوضع الحالي إلى الوضع الجديد وهو تحول من نقطة التوازن الحالية الى نقطة التوازن المستهدفة . وللتغيير أهمية وضرورة لأنه يمنح فرصة لتجديد القيادات والإدارات، ويبرز نقاط القوة والضعف في أداء المؤسسات كما أنه يمنح مؤسسات الدولة ديمومة البقاء والمنافسة في عصر المتغيرات. وحتى يحقق التغيير نتائج إيجابية فلابد أن يسري التغيير في السياسات والآليات والأهداف والهياكل التتنظيمية والتنفيذية .ولكن مع أهمية التغيير إلا أن المجتمع يواجه العديد من العوائق التي تمنع حدوث عملية التغيير منها؛ الخوف على المصالح المادية أو المعنوية من عملية التغيير والتوهم بأن التغيير سيفقدهم تلك الامتيازات، والخوف على العلاقات الشخصية، والتكاليف البشرية والمادية الباهظة للتغيير. والارتياح مع الواقع الحالي والاقتناع به ، وقد يكون المقاوم للتغيير معتبرا نفسه أحد مهندسي الواقع الحالي، معتقدا أن أيّ تغيير هو اعتداء شخصيّ على ذاته. وفي كل الأحوال فإن أي مجتمع لا يخلو من تحديات ومشكلات وأخطاء، وحتى يتمكن المجتمع من مواجهة تلك التحديات ومعالجة الأخطاء لابد له من إجراءات تغيرية في المنهج والسياسات التخطيطية والتتنفيذية فليس من المنطق استخدام الأساليب نفسها ثم يتوقع الحصول على نتائج مختلفة.

7

إذا كنا نقول بأن الخمسين سنة الماضية للنهضة العمانية الحديثة تضمنت التأسيس والبناء والتطوير جعلت عمان دولة عصرية فإننا نقول أيضاً بأن المرحلة القادمة تعمل على الأخذ بمنهج التغيير، ومرحة التغيير القادمة تحمل تحديات لا يعلمها إلا الله  خاصة وأن جائحة 2020 كادت أن تغلق أبواب الأمل للمستقبل بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية إلا أننا كعمانيين جبلنا على التفاؤل حتى في أحلك الظروف، ومنطلق تفاؤلنا الرؤية الحكيمة لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه الذي خطط لرؤية عمان 2040 وأحاط بتفاصيلها وهو اليوم يعمل على متابعة تنفيذها على أرض الواقع وهذا هو منطلق التغيير الإيجابي الذي ننتظره، فخمسون عاماً من العطاء والبناء ستتلوها أعوام من التجديد والتطوير المستمر وستبقى عمان عظيمة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، حفظ الله عمان وسلطانها.