الرونق العذب شذرات من اللؤلؤ الرطب 15

0
855

بقلم/ ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

ويستمر السرد عن تاريخ البطولات والمجد من كتاب شيخنا سعيد بن حمد
لنواصل معكم هذه الشذرات حتى يكتمل العقد……..

أخبار الشيخ عيسى بن صالح الأول
كان الشيخ عيسى من أهل الورع، والتحري
للحق،واتباع السنة، كما وصفه الامام محمد بن عبدالله الخليلي بقوله:
(( كان الشيخ عيسى أشدنا حرصًا على اتباع السنة ))
و هذا القول سمعته بأذني منه -رضي الله عنه- وكان الإمام يعلم المتعلمين الصلاة ، و يقول لهم : هكذا كان يصلي الشيخ عيسى .

ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل و سمعته أيضاً ، و كنت في مجلسه يسأل الشيخ صالح بن عيسى بعد موت أبيه : هل يُرى على قبر الشيخ نور ؟

فقال صالح : يُذكرُ ذلك ، و لكني لم أره .
قال الإمام : إن أهل عمان يقولون : إن النور على القبور كرامة .

و أنا أقول : إن الموت على الاستقامة هو الكرامة ، و الشيخ ممّن مات على الاستقامة ، فليس معناه إذا لم ير على قبره نور ، يكون ذلك نقصا في كرامته .
و من جملة ماسمعت من الإمام يحكي عن الشيخ نور الدين يقول :
يُؤتى للشيخ (( بالنصلة )) لينظر جودتها ، فيرفعها إلى أنفه ، يظن من يراه أنه يشمها ، و ليس كذلك . إنما كان عند الشيخ بقية بصر لكنه ضعيف ، و لذلك يقرب الشيخ من عينه لينظره لا ليشمه .

و سمعته و قد سأله بعض تلاميذه عن الجمع بين الأختين المملوكتين ، فقال :
اختلف فيها ابن عباس وجابر بن زيد ، فواحد منهما أجازه اعتمادا على قوله تعالى : (( أو ما ملكت أيمانكم )) و منعه الآخر اعتمادا على قوله تعالى : (( و أن تجمعوا بين الأختين )) .

قال سائله : فما ترجح أنت ؟
قال : أقول لك .. اختلف فيها ابن عباس و جابر بن زيد ، فما عسى أن يكون قول محمد مع هذين الحَبرين . ولم يجبه بغير هذا ( ا هـ ) .

و يخبر الشيخ عيسى عن نفسه تحدثا بالنعمة ، يقول : ما عصيت الله بكبيرة تعمدتها من صغري .

و في ليلة و أنا في شرخ الشباب ، جاءني بعض الخدم ، فأغراني على معصيه – استفزني بها – فخرجت عنده ، فلما كنت خارج البيت لدغتني عقرب . قلت : هذا إنذار من الله فرجعت عنه تائباً إلى الله و انتهرت ذلك الخادم .

وكان – رحمه الله – لا يأخذ إلا بأحزم الأقوال في الأثر ، ولا يترخص إلا مضطراً .

حكى لي والدي أن أباه لما جاء من زنجبار ، كان عنده دراهم لبناء مسجد من بعض المحسنين . و كان مسجد العريق مبنيا بالطين ، فاستفتى الشيخ عيسى في أن يهدمه و يبنيه بالجص ، فما أباح له ذلك .
قال له : لكن أباك أباح لي هدم مسجد دبيك و بنيانه بالجص ، أيختلف هذا عن ذاك ؟
قال: إن كان عندك فتوى من الوالد ، فاستغن بها و اتركني .

و كان إذا سئل عن شيء يطلب منه الترخيص فيه قال : اذهبوا إلى الإمام فهو الذي يرخص لكم ، و زكَّى بُسْرَه في سنة واحدة مرتين ، و ذلك أنه لما حصده أخرج العشر منه ، و انتظر به السعر ، حتى حال عليه الحول ، فكاله مره أخرى ، و أخرج منه العشر ؛ أخذا بالحزم .

ومن ورعه في الأحكام .. أنه حكم بين اثنين في بدية ، و لما رجع إلى القابل طالع المسألة ، فوجد الحكم فيها كما حكم ، فرجع إلى بدية مره أخرى ، و طلب اللذين حكم بينهما ، فقال : جئت لأحكم بينكما بدلا من الحكم الأول .

قالا : نحن راضيان بحكمك .
قال : لكني لا أرضى . فحكم بينهما بنفس الحكم . فقيل له في ذلك فقال : حكمت في الأول بظن ، و أنا أحكم الآن بيقين .

وحكى والدي قال : خرجنا معه من إبرا ، و كنا جملة . فلما كان في الطريق ، طلب مني أن أصحبه ؛ ليبيت في الغلاجي ، و يصبح في غد مع أصحابه في المضيرب ، فكرهتُ ذلك ؛ لأن الغلاجي ذلك الوقت يهرب أهلها منها لشدة البرد ، و لقلة الأبنية التي تقي عن البرد ، لكن ما وسعني خلافه . فانفردنا عن أصحابنا ، و لما وصلنا الغلاجي قال : اتركني في المسجد و اذهب أنت حيث شئت ، لا أراك إلا صلاة الصبح .
وكانت الليلة شديدة البرد ، ولا يكاد يوجد في البلد سوانا . و عرفت أنه أراد أن يستغل هذه الخلوة ؛ ليبيت في مناجاة ربه .فذهبت أنا عنه حسب أمره ، ولا يكاد أني وجدت مكانا أستكن فيه عن البرد .

و قبيل الفجر جئت بسراج (( بوسحّه)) لنصلي على ضوئه الضعيف الصبح . فلما دخلت عليه ، وجدته قائما على المحراب و لحيته تقطر من الدموع و المخاط ، و هذا ما كان يتمناه .
لكنه عتب علىّ حين دخلت عليه ، و اطلعت على سره ، ماكان يود ذلك ، و لكني تحدثت بهذا بعده تأسيا به .

و كثير من أمثال هذا الصنيع ما يحكي عنه ملازموه في الاعتكاف ، إذ هو لم يترك الاعتكاف حتى في حال مرضه الخفيف
و ماتت له زوجة في سنة من السنين ، وهو معتكف ، فخرج لتجهيزها و الصلاة عليها ، و لكنه لم يذهب الى المقبرة .

وحسبما قدمنا أن أباه لما أُصيب أوصى عليه أن لا يقبل مشيخة الحرث . و لكن الشيخ نور الدين حكم عليه شرعاً أن يقبل ، و أبطل الوصية فكان فيه الخير .

يتبع ،،،،،،،،،،،