العودة إلى المدارس أم العودة إلى التعليم

0
5187

د.هاشل بن سعد الغافري
أستاذ مشارك – علوم تربوية

1- لا تزال المشكلة الكورونية تلقي بظلالها على سكان الكرة الأرضية وكأنها تنبئهم بانقلاب كوني سيغير مجريات الأحداث على كوكب الأرض . والناس على شتى أجناسهم ولغاتهم وثقافاتهم وعلومهم يحاولون “المعرفة” و” الفهم” و”التحليل” لكنهم مازالوا عاجزين عن وصول ذلك الهدف بسبب ضبابية ” الرؤية” أوغيابها او انعدامها وحيث “لارؤية” فإنه “لا معرفة” و”لا فهم” و”لاتحليل”! وما التقارير العشوائية والتفسيرات المتخبطة التي ترد بين الحين والاخر إلا دليل على ذلك، والجميع يلهث بحثاً عن المخلص، ولسان حالهم يقول: ” فإن من أشعل النيران يطفيها” و”أن من فتح الأبواب يغلقها” و” أن من بدأ المأساة ينهيها” . و”من” هنا اسم موصول، من أعم ألفاظ العموم! يغطي مساحة شاسعة من احتمالات (فاعل) غير معروف!
فالناس قد عرفوا الفعل والمفعول به، كما عرفوا أدوات النصب والجر، لكنهم عجزوا عن معرفة الفاعل، الذي بقي “ضميرا مستتراً” بلا ضمير! وحيث أنه لا إمكانية للناس معرفة الفاعل فإنهم سيقفون عاجزين عن فهم الفعل وتحليله وتفسيره وستبقى اللاءات جاثمة على العقول والصدور حيث “لارؤية” و”لا معرفة” و “لا فهم” و”لاتحليل” و “لا تفسير “.
2- النظام التعليمي كغيره من الأنظمة الأخرى يعاني من غياب البوصلة التي تساعده على تلمس المسار الصحيح وهي نتيجة طبيعية لأن ملف النظام التعليمي في أيام الرخاء كان مبعثر الأوراق بين أروقة العديد من الجهات الإشرافية على هذا الملف ولا أدري متى سيكون ملف التعليم بمستوياته” ما قبل المدرسي و المدرسي والجامعي وما بعد الجامعي والبحث العلمي”تحت مسؤولية جهة إشرافية واحدة يسهل متابعتها ومراقبتها ومحاسبتها مع بقاء مجلس التعليم كجهة تشريعية ورقابية .على كل حال تلك الجهات على كثرة تعددها وتنوع مسؤولياتها وضعت نفسها في خانة “الصامت” و تقف موقف العاجز الذي أقر بضعفه وينتظر يد المساعدة وينطبق عليهم المثل الذي يقوله أهل عبري الكرام “كما اعور (أعور) يترجى الصبح” أي أعمى ينتظر رؤية الضياء! فتلك المؤسسات على كثرتها لم تستطع اتخاذ قرار طوال ستة أشهر متتالية، إذاً المشكلة ليست في وجود الجائحة أو حتى جوائح أو جائحات، فالراحة تخرج من رحم المتاعب ومن معاناة المشاكل تولد الحلول، إن صحت العقول! إنما المشكلة الحقيقة تكمن في مدى قدرة هذه المؤسسات وجاهزيتها للعمل والانجاز واتخاذ القرار في وقت الأزمات بما تملكه من الاستراتيجيات والخطط والبدائل، التي يفترض أنها موجودة وجاهزة بالفعل لدرء المخاطر ومواجهة حدوثها.
3- قامت وزارة التربية والتعليم بنشر استبيان للمجتمع ودعت شرائح المجتمع كافة للمشاركة في الاستجابة للاستبيان، لقد أحسنت الوزارة صنعاً عندما قامت بذلك ليس لكون الاستبيان مهماً؛ ولكن لأنها استطاعت أن تشغل المجتمع بضعة أيام، فكثرة الحوارات والأحاديث المستمرة ليل نهار أزالت عنهم بعض الملل نتيجة الحجر المنزلي لاسيما وأنه تزامن مع عرض الفلم الوثائقي”سواحل عمان” وهما جرعتان كافيتان لينشغل الناس بهما فترة من الزمن حتى تأتي جرعة أخرى، فتشتت الانتباه شيء جميل لأنه يُنسي الهم!
الحقيقة لست ضد فكرة الاستبيان، فأنا أكاديمي وباحث، وأٌقدر المنهجية العلمية في البحث والاستقصاء، وكثير من الدول تستخدم الأدوات والمقاييس البحثية لمعرفة رأي عام في قضية أو مشكلة مجتمعية أوتعزيز اتجاهات معينة أو تعديل سلوك غير مرغوب فيه أو أية أهداف أخرى لكن بصدد الاستبانة التي أعدتها وزارة التربية والتعليم لم أستطع معرفة الهدف أو الأهداف التي تسعى الوزارة إلى تحقيقها من نتائج التطبيق، فهل هدفت الوزارة إلى معرفة اتجاهات أفراد المجتمع ومعرفة مدى استعدادهم لأي تغيير قادم؟أم أرادت تهيئتهم لاستقبال أي بديل من البدائل المطروحة في الاستبانة حتى لا تشكل لهم صدمة مفاجئة عند صدور القرار ؟ام أرادت أن تتخذ المجتمع ذريعة تستند إليها إذا ما حدث أي فشل للقرار المتخذ على اعتبار أن فئة كبيرة من المجتمع اختارت هذا البديل ؟ أم أن الوزارة اتخذت قرارها منذ فترة سابقة وأرادت ان تستأنس برأي المجتمع كعملية تعزيز للقرار المتخذ؟
لا أدري! لكن بالتأكيد توجد الإجابة عند الجهة أو الجهات المسؤولة، لكنني مع كل هذا وذاك أقول أنه لا يجب أن نعول كثيراً على نتائج الاستبانات لكونها تعتمد على الآراء، والفرد قد لا يعبر عن رأيه الحقيقي في كثير من الأحيان، كما أنه قد يغير رأيه تبعاً للمواقف، وبالتالي فإن نسبة الشك في نتائج هذه الأدوات الوصفية تكون مرتفعة، هذا فضلا على أن من قام بتطبيق الاستبيان لم يأخذ في اعتباره (المتغيرات الدخيلة) التي يمكن أن تؤثرعلى النتائج كأن يقوم الشخص بالاستجابة على الاستبيان مرات عديدة مثلا.
4- لم يكن المجتمع بحاجة إلى استبيان بل كان في أمس الحاجة إلى قرار إجرائي واضح وصريح يحدد فيه المسار، كنت أتوقع في شهر يوليو الماضي أن يعقد مؤتمر صحفي يضم رؤساء الجهات المسؤولة عن التعليم المدرسي والجامعي كي يوضحوا للمجتمع السيناريو الذي تم اعتماده للعام الدراسي والأكاديمي 2020/2021 فمن غير المتصور أنهم لم يجتمعوا طوال الستة أشهر المنصرمة وأنهم لم يضعوا سيناريوهات متعددة ولم يحددوا بدائل ولم يختاروا البديل الفضل، إن كانوا لم يفعلوا ذلك فنحن أمام كارثة حقيقية في قيادة المؤسسات رغم كثرة المستشارين والخبراء والمدراء والمخططين الذين تزدحم بهم تلك المؤسسات لكن إن كانوا قد فعلوا ودرسوا ووفكروا وقرروا فكان من الواجب الظهور للناس وإعلامهم بما تم إقراره في وقت مبكر حتى يستعد أولياء الأمور في ترتيب أوضاعهم قبل موعد الدراسة بشهر على الأقل.
أعتقد أن القرار يجب أن يكون في يد المختصين، كما لقنتنا ثقافة مجتمعنا : “قبّض السيف ضاربه” ! وكما لقننا نص القرآن الكريم الذي تلقيناه بواكير العمر في “الكتاتيب” كقاعدة في بناء المجتمع الإنساني المتحضر، أن تكون هناك اختصاصات ومختصون ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” النحل /43، فالطبيب الجراح هو من أهل الذكر في مجاله لكن ليس من المنطق أن أستشيره في مجال علم الميكانيكا أو الأنثروبولوجيا مثلاً، كنت أتوقع أن يكون للمختصين أصحاب القرار في المؤسسات المسؤولة عن التعليم أن يكون لهم رأي وقرار ويقدموا لنا رؤية واضحة لمسارنا التعليمي في شهر سبتمبر المقبل لكنهم لم يفعلوا وكأنهم يرمون الخيط والمخيط للمجتمع،وكثير من الناس لديهم استعداد أن ينصبوا أنفسهم خبراء ويسقطوا علينا خبراتهم الفردية، في الأمس القريب كانوا خبراء في الطقس حتى غير المنخفض مساره! ثم تحولوا خبراء في علوم التاريخ والجيوساسية بمجرد خروج الفلم الوثائقي! ثم فجأة أصبحوا خبراء في التعليم ينظرون ويحللون والسبب أن مؤسسة صنع القرار في التعليم وضعت نفسها في خانة ” الصامت”.
5- العملية التعليمية تتحقق بتوافر ثلاثة عناصر رئيسة وأساسية ( المعلم-المتعلم- المنهج) أما بقية العناصر فهي معينة ومساعدة ومحفزة وداعمة مثل المبنى المدرسي والإدارة والقوانين والأسرة وغيرها وهذا يعني أن العملية التعليمية يمكن أن تتحقق بوجود العناصر الثلاثة الأساسية والاختلاف يكون في درجة التحقق على حسب توافر العناصر الأخرى وهذا يعني أنه يمكن أن يتحقق الحد الأدنى والمتوسط للعملية التعليمية خارج المبنى المدرسي “ولو تحت ظل شجرة”.
6- الطالب أو المتعلم في مراحل الطفولة والبلوغ والشباب لديه قدرة عالية للاكتساب كما أن جميع المهارات قابلة للتعلم والاكتساب ويتفاوت الأفراد في اكتساب المهارات وفقاً لأعمارهم الزمنية وقدراتهم العقلية ودوافعهم النفسية لكن الجميع لديه خاصية الاستعداد للاكتساب والتعلم .
7- التعلم يقوم على عدد من المبادىء منها التعلم بالمحاولة والخطأ، وهي من النظريات المعتمدة عند “ثورندايك” أحد رواد المدرسة السلوكية، وهذا يعني أن التجارب الخطأ ليست فشلاً وإنما محاولات لم تنجح، وتشكل في مجموعها خبرات تراكمية تؤدي للنجاح وعليه لا يمكن الحكم على فشل السلوك من نتائج التجربة الأولى.
ما أردت قوله هنا أن العملية التعليمة لابد أن تبدأ في شهر سبتمر بحلوها ومرها ولما كان التعليم الصفي المباشر يشكل قلقاً وخوفاً شديدين لدى أفراد المجتمع فلنبعد هذا الخيار حتى نقلل من نسبة التشتت ولنأخذ خياراً واحداً وهو التعليم والتعلم عن بعد متضمناً التعلم الالكتروني، نعم سنواجه صعوبة ومشاكل وتحديات ، لكن مواجهة التحديات والصعوبات ليس فشلاً إنما هو بذل الجهد لتحقيق النجاح، فكل ما يفعله الناس الآن وضع العراقيل قبل بدء التجربة وكأنهم يضعون الحصان أمام العربة وقد يأتي شهر سبتمبر والمجتمع مازال في جدال بين مؤيد ومعارض وسنضيع الوقت والجهد في جدليات لفظية، فعلى الجهات المعنية الانتقال من التنظير إلى الإجراء فلا وقت للتسويف والانتظار.
8- أكبر التحديات تكمن في أمرين؛ الأول في تطبيق التعلم عن بعد؛ وهو ضعف شبكات الاتصال خاصة في القرى والمناطق الجبلية، ومن المؤسف والمعيب أن يكون هذا تحديا معيقاً في سلطنة عمان العظيمة بعد مرور خمسين عاما من البناء والتطوير! وهنا رسالتي مباشرة لوزارة التقنية والاتصالات بأنه عليك تحمل مسؤولية معالجة هذا التحدي لأنها مسؤوليتك وفقاً للرؤية والرسالة والأهداف والاستراتيجيات التي قمت بتبنيها وتعهدت بها، فأنت الجهة المسؤولة عن إيجال حلول سريعة لتوفير خدمة الاتصال بالتنسيق مع الشركات ذات الاختصاص.
أما التحدي الثاني فيكمن في خوف أولياء الأمور من عجز أبنائهم في التعامل مع التعلم التقني، ولكني أرى أن التحدي ليس في عجز الطالب بل عدم قدرة ولي الأمر على كسر حاجز الخوف، وأنا أب وولي أمر وأدرك تماماً هذا الشعور الذي يتملك الآباء والأمهات، مع أن الواقع يشير إلى أن النسبة الأكثر من الأطفال يستخدمون التقنيات الحديثة ( الهواتف والأجهزة اللوحية) وهم في الرابعة والخامسة من أعمارهم ولديهم القدرة على التفاعل أكثر من آبائهم، أدرك تماماً مقدار الصعوبة التي يتخوف منها الاباء في هذا الجانب لكنني أعتقد أيضاً أن هذه الصعوبة يمكن تحديها ويمكننا تعديل السلوك ا المعتاد في التعامل مع الورقة والقلم إلى التعامل مع الشاشة والكيبورد ويمكننا اكتساب تلك المهارات الجديدة بالممارسة والتكرار حتى يتحول التعلم التقني إلى سلوك آلي يمارسه جميع أفراد المجتمع ، فقط كل ما يجب علينا فعله الآن أن نبدأ.