عُمان أتتك باكية يا قابوس، عُمان أتتكِ باكية يا غلا.

0
1814

يحيى بن سالم المعشري

لم أكن لأكتب هذه الكلمات في هذا الوقت العصيب ولم أكن لأحاول تسطير هذه الحروف والهواجس؛ لولا أن كتب ليّ القدر أن هممت بزيارة عابرة إلى قرية غلا، إحدى قرى ولايات بوشر، حاضنة مسقط وإحدى أهم الولايات في السلطنة؛ لتفردها بوجود العديد من مؤسسات الدولة وأهم الأركان والثكنات العسكرية

تركت جُل تلك التساؤلات والهواجس ودثرت مشاعري المشوشة مؤخرًا بالفقد العظيم الذي حلّ بعُمان وشعبها الأبي برحيل السلطان قابوس، سلطان السلاطين وبدأتُ أبحث عن موقعٍٍ ملائم أستطيع من خلاله مشاهدة هذه القرية الشامخة من الأعلى ولكن هذه المرة ليس من أجل الاستمتاع برؤية هذه القرية الوادعة وكما جرت العادة عندما أقرر البدءِ في زيارتها خلسة؛ من أجل مشاهدة مزاراتها السياحية وعيونها المائية الطبيعية الساخنة ومياهها الكبريتية ولا من أجل الاستفكار في مداخلها الضيقة التي تخالف سعة صدور قاطنيها في التكوين ولا في هندستها التقليدية وبناياتها الراسخة ولا نية لي كما كنتُ وأنا أحدق في زواياها التي تشّع بالفنون والأصالة التي تفردت بها بين قريناتها من قرى بوشر أن أتفحص جمالياتها ولا أرغب في التمعن في أفلاجها وهي تداهمك بصوت مياهها الرقراقة

حاولت أن أزيح ذلك الشعور الجاثم على صدري فنظرت نظرة وكأنها الوداع الأخير على جبل حيد السامق الذي كان على موعدٍ لأن يستقبل عشاق البيئة لمخر عبابه؛ من أجل تنظيف مساراته الجبلية الرائعة، فرأيته يطوق البيوت المتشابكة والمزارع التي شكلّت واحةً غنّاء‘ يحيط بها الاخضرار من كل جانب، أغلقتُ باب الولوج في معالم قرية غلا وفتّشت في مداخلها عن المكان الملائم الذي أستطيع منه أن أطل على مقبرة الأسرة المالكة في هذه القرية الصغيرة وفيها قبر السلطان قابوس وحنوط الفراق وفيها أهال التراب أحد المواطنين الذين تشرفوا بأن يكونوا آخر من يلقي على السلطان تحية الوداع وهو آخر من ذرّ حفنة تراب على قبر السلطان وآخر من رشّ الماء وآخر من ذرفت دموعه على قبره فوقفتُ متسائلًا بيني وبين نفسي وأزحت ذلك الشبح الهُلامي الذي يجثم على صدري، وقلت في سري: تُرى من يكون هذا الرجل وما هي صفاته وماذا يمتلك من مواصفات لا يمتلكها غيره؛ ليكون آخر نفس يلامس جثمان السلطان قابوس وأسئلة عديدة خبأتُها في دفتر أفكاري، وبين صمتٍ كبير ورسائل التأبين المترامية على هاتفي صبيحة يوم الأحد الثاني عشر من كانون الثاني لعام 2020، أحسست بالخدر يسري في روحي وحدقت إلى مساحة رأيتها أمامي في ربوة مرتفعة عند بناية تطل على مقبرة الأسرة المالكة، فكان المشهد أمامي غير اعتيادي وكانت الرؤية ليست بانورامية كما كنت أفضلها في أغلب الأوقات، بل كان مشهدًا محزنًا ومشهدًا مفصليًا وتاريخيا، رأيت فيما رأيت عددَا من سيارات المواطنين وأفئدة تسترق السمع إلى صوت المذياع وكان حسن الفارسي يتصدّر المتحدثين، بين مؤبن لمسيرة رجل أسطوري في عمر النهضة العُمانية وبين مستشرف للمستقبل في عهد السلطان هيثم بن طارق وفي كلا الحالتين تمازج لا يستشرفه إلا من بنى من ماضيه سلمًا نحو الحاضر والمستقبل، كان بصري معلقًا في تلك البقعة التي توشحت بألوان ديوانية ملكية وكان الناس وهم يجوبون بسياراتهم يبحثون عن اتجاهات ترسم لهم الحدود التي تعينهم على رؤية قبر السلطان قابوس وكنتُ مصوبًا عدسة هاتفي باتجاه الغرب وكأني أطالع في جموع بشرية تحاول استمالة العسكر من أجل الدخول والتشرف بإطلالة على قبر الحبيب وثمة بشرٌ آخرون يفترشون الأرض، باسطي أكفهم، محدقين إلى السماء ويعضّون على شفاههم وأعين تذرف الدموع وآخرون لم يتمالكوا أنفسهم رغم رباطة الجأش الذي يتحلوا به؛ فأخذوا يجهشون بالبكاء

تركت المشهد العلوي من هذه الربوة وقبل أن أنحدر إلى الأسفل هاتفت الصديق عمر الرقادي أحد الأعزّاء من أعيان قرية غلا، فكانت أنفاسه تتطاير وكنتُ أتحسس دموعه تخترق هاتفي الهواوي ميت تن برو من نبرات صوته، فأخذ يسترسل في ذكر مناقب السلطان قابوس وكيف كانت سيرته العطرة وماذا أحدث في عُمان الداخل مذّ بداية توليه مقاليد العرش إلى أن فاضت روحه إلى الرفيق الأعلى وماذا يعني له شعبه وكيف كان هو، أي عمر ورهط من أبناء القرية كانوا من المعارضين لوجود هذه المقبرة بالقرب من مقر سكناهم، في تلك اللحظة الحاسمة كان عليّ إنهاء المكالمة مع الرفيق عمر الرقادي والتوجه إلى مقبرة الأسرة المالكة وكنتُ أظن بأني الوحيد الذي انتابه شغف السبق، فرأيت أفواج بشرية تنساق إلى المكان ورأيت الدموع تسابق الأجساد ورأيت رجال العسكر يقفون منتصبي القامة وأنا على يقين بأنهم سهروا الليالي وطار من أجفانهم السهاد، متأبطين أحزمة وبنادق لا تصوب إلا على الأعداء، اندفعت إلى الفناء الخارجي لمحادثة العسكر لعل قلوبهم تلين ويسمحون لي دون غيري بإلقاء تحية الوداع على السلطان، لكن هيهات هيهات، شعرت بحرارة الموقف ورغبات الجموع في الدخول وغيوم تجثو على الموجودين ويا لطف الربّ في عباده، فقد كانت السماء لطيفة بالموجودين وقد كانت تغطّي حرارة الجو والموقف المهيب

في تلك اللحظة الحاسمة كنتُ مغتاظًا وراودتني شرورًا جمة وأفكار تعصف مقلتي، وقلت: سيدي العسكري، لماذا كل هذه القسوة ولماذا تمارس عسكريتك عليّ أنا المواطن الذي لا حول له ولا قوة وأخذت أغدق عليه بسيول من العبارات الاستلطافية؛ لعلي أظفر بعطفه ولعلّي أكون أول المواطنين الذين يطلون على قبر السلطان قابوس وأول المواطنين الذين يتحسسون روحه وهي تفيض إلى بارئها، قلتها لك أيها الشقي، أنتَ مثل غيرك من الناس لا يحقُ لكَ أن تخالف القوانين، استقرأت تلك التمتمات من نظراته الجافلة وعينيه التي بدا عليهما الرغبة العارمة في معانقة الفراش والخلود إلى النوم، ورد علي باقتضابٍ تام، نحن العسكر لدينا قوانين وأنظمة لا يمكن مخالفتها،

انظر إلى تلك الكاميرات؟ كلمة عابرة اندلقت منه مصوبة تجاهي، أحسست بتبدل النسيم البارد الذي كان يلفحني يتحول إلى رياحٍ هوجاء تلطم وجهي ذات اليمين وذات الشمال، عليك أن تقفل عائدًا إلى حيث أتيت لأن جل محاولاتك ستبوء بالفشل وعليك أن تكون مطيعًا عزيز المواطن، شردت بفكري في رؤية الجموع المطوقين على المكان وقلت وأنا في حالة شرود “آآآه” وقفت مشدوهًا وسرت بسيارتي إلى مكان منزوٍ وعلى مد البصر البعيد صوبت نظري إلى الأعلى وفتحت المذياع على صوت أحد المقرئين يقرأ آية “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية”، فجأة أغلقت المذياع وبدأ العرق يهدر من جسدي والناس تزحف ويحتشدون احتشاد النمل إلى قبر الحبيب السلطان قابوس وأجساد ممزقة بمرارة الفقد وأدرت مقود سيارتي إلى المدخل الصغير، لكنه كبير بحجم من مر به وهم يحملون السلطان قابوس على الآلة الحدباء، المتوشحة بلون الوطن، وكأن شيء يجثم على صدري فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وبدأت أقرأ المعوذات فوقع بصري على العسكريين الذين تركوا شراستهم وتعليماتهم ووقفوا منتصبي القامة، موجهين سهام بصرهم إلى قبر السلطان ودموعهم تنهمر، فالفراق صعب والمصاب الذي وقع عليهم جلل، فقلتُ يا سبحان الله، عُمان أتتكَ باكية يا قابوس، عُمان أتتكِ باكية يا غلا.