عمتي الوحيدة وسر الصورة

0
1699

بقلم / ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

أسابق الخطى كي ألحق بخُطى أبي رحمه الله عندما كان يسابق للخيرات وينافس للأذان في المسجد قبل غيره ممن يحرصون على رفع الأذان للصلوات ولا تخلو الأرض من أهل الصلاح ، فقد كان يكثر الخُطى إلى المساجد حتى في أصعب الظروف وتقلب الأجواء، فقد كانت معظم المساجد تعرفه بشهادة الجميع وذلك من علامة الإيمان فقد قال : نبينا العظيم محمد صلوات ربي وسلامه عليه :- ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

يذكر لي الأستاذ الفاضل عبد العزيز بن حمد العادي يقول : عندما كنتُ أسكن في بيت أبي في العامرات بمنطقة وادي حطاط ( الشعبية ) كان والدك من السباقين والمبكرين في القدوم إلى المسجد ، والمنافسة على رفع الأذان في المسجد حتى في الأنواء المناخية الصعبة ، وكان حريصًا على الصدقات في السر والعلن وكثيرًا ما كان يخفيها حتى أننا لم نكن لنعلم عنها إلا بعد موته، فمنها ما هو للمساجد وقد جعل لها نصيبًا ومنها ما هو للفقراء والمساكين وقد جعل لها النصيب الآخر ولولا بوح وكلاء المساجد ومن هم في خدمتها وبوح من كان يجزل لهم العطاء من الناس، لما كنا لنعلم عنها مع جزمنا التام بإنفاقه المستمر ، فهو لم يقصر معنا نحن أبدًا ، فكيف ينسى غيرنا وكان كثير الذكر لوالديه جدي و جدتي رحمهما الله معترفًا بفضلهما عليه وقد أرضعاه هذه الخصال منذ الصغر كما أرضعاها لأخته وشقيقته الوحيدة عمتي الفاضلة الكريمة والتي هي في غاية الحرص علينا وخاصة بعد وفاته، عرف أبي حق ربه عليه فأداه ، كان يحرص على قيام الليل وتلاوة القرآن لذا تجده قد وزع مصاحفه على أولاده والمساجد التي كثيرًا ما كان يتردد عليها ويلازمها، هيأ لنفسه الرحيل وأعد له ، وقرب زاد الرحيل بل وأخبرنا بذلك وقد أحس بدنو الأجل ، كما أخبره بذلك والده من قبل جدي ناصر عندما حضرت وفاته هو الآخر أفصح عن ذلك وودعه رحمه الله وها هو أبي رحمه الله يصنع نفس الصنيع فما أشبه الليلة بالبارحة

وقد ذكر لي ذلك كما ذكره لغيري ومنهم العم محمد بن سالم السيابي حفظه الله وشفاه وعافاه والد العديل سليمان عندما أتانا معزيًا وقد أثقلتهُ الحُمى وهو يذرف الدموع فقلت له وصل الأولاد وأبلغونا بمرضك وعذرناك قال : لا لم أستطع المكوث ولو لبرهة منذ أن وصلني نبأ وفاته وأنا أتذكر كلماته ثم قال لي: أتذكر زيارتكم الأخيرة لنا والتي كانت منذ أشهر عندما ذهبتم أنت وخالد وولدي سُليمان وتركتمونا نتجاذب أطراف الحديث أنا ووالدك قلتُ نعم قال: أخبرني بأنها الزيارة الأخيرة ولعلنا لا نلتقي بعد هذه المرة والعلم عند الله، ولم أكن أستشعر عمق تلك الكلمات ووقعها عليّ في تلك اللحظة إلا بعد رحيله رحمة الله عليه، يقول لاتزال هذه الكلمات تطرق مسامعي بين الحين والآخر وكأني أسمعها الآن، يقول: كان والدك دائم الفكرة حاضر الابتسامة طيب القلب لينًا مع كل من عرفه واقترب منه هذه شهادتي فيه وإني لأتأسف على سرعة الرحيل ولكنه أمر الله، وأخبر بذلك أيضًا العم سالم بن سيف المعشري والد كلًا من هلال وخالد وسعيد ويحيى وهاني يقول: عندما زرته في مشفى النهضة بروي كان يقول لي هذه سكرات الموت وقد دنى الأجل ، وقد قال لي أنا أيضًا موصيًا بمكان العزاء في مسجد أنس بن مالك في العامرات الجديدة في المنطقة التي أقطنها، بين من أحبهم قلبه وارتاح لصحبتهم من مختلف قبائل تلك المنطقة، كما حضر العزاء كذلك العم خميس بن تميم الوهيبي رغم مرضه والذي أجهش بالبكاء منذ وصوله للمسجد وقد أسرعنا إليه لنجلسه وكان يود مصافحة الجميع كما هو دأبه وحفاظه على إفشاء السلام ومصافحة الجميع حتى في حال المرض ووجدنا أن ذلك يشق عليه فقد تكلف بالحضور جزاه الله خير الجزاء ، وهذا هو شأن الأوفياء ، كنتُ أتاملُ صورة لأبي رحمه الله وأنا صغير وقد طبعت تلك الصورة في قلبي ومخيلتي وكنتُ أحدث بها نفسي وقد ذكرت ذلك لشقيقي الأكبر خالد وإذا بالعمة الجليلة ترسل لي تلك الصورة وكأنها أحست بي فقلتُ لها كنت أبحث عن هذه الصورة الجميلة والنادرة فشكرًا لله ثم شكرًا لكِ عمتي الغالية قالت لا شكر على واجب يا ماجد ، تحسبت لهذا وأخذت من هذه الصور واحتفظت بها للذكرى لعلها تفقد ويكون البديل معي وهذا ما حدث بالفعل ، قلتُ لها فعلت خيرًا فنِعم الحرص ونِِعم الصنيع ، وقد ظهر في هذه الصورة وهو في ريعان شبابه كما أسلفت وفي مقتبل عمره قبل أن تتغير ملامحه بسبب الكد والسعي للرزق والأعمال الشاقة المختلفة التي عمل بها من أجل أن يهيىء لنا سُبل العيش الكريم وقبل أن تلفحه قسوة الأيام وتوالي الأعوام وترادف الظروف ومضايقة الأنام آنذاك كما هو الحال لدى الكثير من أقرانه ، لقد كان أبي عصاميًا صبورًا يأكل من عمل يده ويواصل كلال نهاره بكلال ليله، كم تعب وتحمل من أجلنا وكان بمثابة العصا لوالده جدي ناصر رحمهما الله جميعًا ، فكم كان ينور ظلمة الليل بجبينه الناصع البياض ووجه الأنور بحفاظه على صلاة الليل والقيام في الأسحار يجالس الذكر والقرآن ويكثر من الدعاء ، فهو أبيضٌ مشرئب بحمرة، أحبه من رآه يستقبل الناس بابتسامته الوضاءة ووجهه الطلق، كثيرًا ما تجده يرابط في المساجد بين الصلوات كي يتلو القرآن الكريم ، فقد تركنا نحيا حياة كريمة هانئةً نسأل الله كما أكرمنا أن يكرمه في أعلى فراديس جنانه رحمه الله ورحم أمنا الغالية وجمعنا بهما في جنات النعيم ورحم كل عزيز فارق أهله اللهم اغفر لكل من آمن بك الأحياء منهم والأموات آمين يا رب العالمين.