ناقوس الغياب يقرع في صمت

0
2378

بقلم / بدر بن عبدالله بن حبيب الهادي.

المدينة تزحف نحوي بأبقارها، ونوارسها، وروائح المشاوي التي تنبعث من أكشاك الشوي المنتشرة على شاطئ البحر، وأنا ما زلت مثبتا بصري على ذلك المبنى الانيق الذي كانت أحدى قاعاته تحتضن لقاءات بين مجموعة من البشر يتحدثون فيها عن القصة والشعر ويقرأون بعض منها ، نصوص مختلفة

يناقشونها بشيء من الفلسفة وكثيرا من العاطفة ، الان ذاب الجميع في حرارة الصيف ، بل تاهوا في زحمة الشوارع ، لم يعد لهم من باقية ، كالإعصار في وسط الصحراء تلاشى ، ربما ينشأ في دواخلهم أمل آخر وربما يضاء في سمائهم نجم جديد ليسري بواحاتهم صبح لا تغيب شمسه

لقد رحلوا ولم يتركوا لي فرصة لأودعهم الى مراكب الرحيل ، عندما أتذكر تفاصيل ما يحدث في تلك القاعة أحس بشيء من الغضب على الزمن الذي غيب كل شيء جميل في حياتنا ، بكيت وأنا أتخيلهم يتدلون من سقف السماء .
دسست جسدي الى القاعة التي شهدت همساتهم وضحكاتهم وصراخهم وخيل لي بأنه لا يزال صدا أصواتهم يتردد بين جدران القاعة التي يبدوكل شيء جديدا فيها، وقد أصبحت خاوية على عروشها، دققت البصر كرتين وأكثر، وعاد البصر خاسئا وهو حسير، أنها خالية بالفعل تذروها الرياح، لم يكن ثمة أحد في المبنى سوى بعض الموظفين متناثرين هنا وهناك يتحركون داخل مكاتب ضيقة.
خرجت وقد أصابني الحزن ، أفتش عنهم في الفناء الخارجي للمبنى ، وعنما تطلعت من حولي ، شعرت بتيار خفيف يسري في جسدي ، وشيئا فشيئا بدأت أعود من الحلم الى هشاشة الواقع الغامض ، وخفت بأن لا التقي بهم أبدا وأنا الذي كتبت أسمائهم بالوشم في قلبي ، يا الله لماذا هذا المجهول الذي يصدمنا دائما ؟ .
عندما أوقفني رجل المرور قال : – هذا أنت؟ نظرت اليه وطلبت منه تحرير المخالفة واخلاء سبيلي ، لقد تأخرت كثيرا عن العمل شهرا كاملا تائها في شوارع المدينة وبين أزقتها الضيقة ، أبحث عنهم لعلي أصادف شمسا في يوم سعيد وأجد عبدا يدلني على المخبأ الذي أختفى فيه الحبيب وضاع من بين أيدينا ذلك العابث بالحروف ، غير أنني لا أجد غير مدينة تطالعني بأبراجها العالية وبيوتها الانيقة وكأنها نحتت في الصخور ، كان يحدث لي خاصة في نهار العمل ، بأن أجد نفسي على الكرسي مغمورا بفورة من الحرارة الممزوجة بشيء من القلق ، وأصحو منه على صوت المدير الذي لا يكف عن ازعاجي وهو يقول :- هل تعتقد أنك في نزهة ؟ كنت أقرأ في نظراته نوعا من الشفقة القلقة، كان بودي محادثته وأناقشه عن الاقمار التي اختفت، لكني لم أكن أعرف ما أقول، ربما يوما سأصبح شيئا بلا قلب، بلا عقل، بلا معنى، وتخيلتهم يمرون من أمامي مهرولين في اتجاهات مختلفة، كل ينشد دنياه الخاصة، حدقت في وجوههم باحثا عن احد ما، لم أكن أعرف أحدا يمكنني التحدث اليه، وشعرت بأن تلك الرؤوس ملئت بالأكاذيب والاباطيل، مثل كل البشر السابقين الذين تحولوا الى ماض ونحن على دربهم سائرون.
كان عقلي قد أصبح بعيدا عن المكان ، عندما سمعت رجل المرور وهو يطلب مني التوقيع على المخالفة ، وشعرت بأنني أطير في الفراغ ، عجبا لهذه المدينة ، أسمع فيها خواء الابقار وثغاء الاغنام وصياح الديكة ، ورائحة الفراق ما برحت تمعن في قلبي تمزيقا .
في الخارج كان الهواء ممتلئا بالرطوبة وقد أصبح ثقيلا على غير العادة .