العازف كان ينتظر الشروق عندما داهمه القدر

0
2942

بقلم / بدر بن عبدالله بن حبيب الهادي

الشمعة بدأت في الانصهار عندما تحول المساء إلى اهزوجة تطرب الباحثين عن الحزن ، كانت الشمعة جميلة وهي متوقدة تكشف روعة المكان الذي ارتدى عباءة الليل ، بجوار الشمعة المنصهرة كان البحر يغني ممزقا صمت أطبق على الفراغ ، وتتمايل ضياء الشمعة كأنها نشوى تتجاذبها حبات النسيم .
مشهد أول….

كان عازف العود المطرز بالعواطف جالسا على رمال الشاطئ تستفزه هالة الشمس التي بدأت تقطع تذكرة السفر راحلة في عمق المدى للتترك مكانها لظلمة تلهث في الفراغ تغطي قسمات وجه شارد الخطوات يحترق مثل شمعة تنتظر نعمة الموت الدافيء ، العصفور الصغير يظهر في الفضاء ثاقبا الأفق بمنقاره ، ممتطيا هودج الرياح مصفقا بجناحيه متابعا شفق الغروب ، يهرول في طيرانه مزاحما أشعة الشمس فاردا جناحيه ذات اللون الرمادي في الأفق الكبير ، العازف المعبء بالعواطف ما يزال ينظر في الأفق الأزرق المخضب بصفرة الغروب وهو يضاعف تركيزه ناحية العصفور الصغير الذي كان يقوم بوصلة من الرقص منتشيا مثل راقصة تسلي زبائنها المندهشين للطبيعة المتفتحة وهم يحلمون بالسفر اليها ليكتشفوا السر المغطى في قامة الابنوس ، تحت مظلة جناحي العصفور الصغير يبدأ العازف في مداعبة أوتار العود ، يغذيها بهسهسة لصفير أغنية فيروزية كانت أمه العجوز تلوكها وكأنها نشيدا صباحيا يوقظ الفتيات من حلم المضاجعه ( يا راعي القصب مبحوح جاى عبالي سروجي ، قله للقصب ما يبوح بالسر يلي بعروقي ، وان ضعنا سوى بها الليل خل صوتك مسموع ) لتبدأ الاوجاع والانفعالات تتدفق في جسد العازف المترنح لتنساب بين أصابعه غاسلة أوتار العود من بقايا الإدمان لحنا يهمس به لليل القادم ويغنى به خاطرة لموج البحر الغاضب .
مشهد ثاني…

الشمس وقد بدأت تلقي تحية الوداع رامية لونها الشاحب خلف أمواج البحر المندفعة بضجيجها الغير مرتب ، مسافرة لتشعل بنورها مكان آخر من الكون وتبدو هالتها الصفراء رائعة وهي ترقد في حضن البحر الذي تحول الى لأليء فضية تغتسل بالنزيف المتبعثر من ضياء الشمس المسافرة ، العصفور الصغير يبدأ رحلة العودة إلى وطنه هربا من سواد الليل الآتي بالاكتئاب يرقد في وطنه بسلام على صوت موسيقى عذبة تعزفها أمواج البحر وهي تضاجع رمال الشاطيء منسابة بين ذراتها متدفقه بين المسامات الرملية ، عيون العازف طغى عليها الذبول والتثاقل ، يتأمل فضاء تكسوه سمرة مسائية مثل سحابة أرتفعت فجأة من عمق البحر لتغطي جسد الشمس ، العازف ينتعش يتوضأ بكأس من خندريس باخوس ، بكل اجلال يرفع الكأس إلى الأعلى مخاطبا العصفور الصغير النائم فوق غصن الشجرة..
– في صحة جميع العازفين المتشردين المتمردين على الثوابت المتعفنه .

الرطوبة تمتزج بالظلام وبحبيبات الرذاذ المتطاير من فم العازف ، الرؤية تختنق في مسافات قصيرة ، جسد العازف يرتخي يمسك بالعود يداعب الاوتار وبصوت طغت عليه بصمة الحزن والترجي يغني (يا راعي القصب مبحوح جاي عبالي سروجي قلة للقصب ما يبوح بالسر يلي بعروقي وان ضعنا سوى بها الليل خل صوتك مسموع) صوت ينسج الحزن ، يغطى معاناة قلب مشحون بالأحاسيس المحطمة المتداعية ، والعواطف الجياشة تختبئ بداخل لحن فيروزي مستمدا من فوضوية الليل والوداع الصامت الخالي من القبلات ، العازف يبكى ذارفا جدولا من الدموع المختلطة بالضباب المبهج ليغسله من آثار الشهوة ، وقد احس بنفسه تسكن في زمن مهجور محلل من القيود ، كان كالعاشق يحضن عشيقته مداعبا شعرها بأطراف أصابعه حابسا تأوهاته المكبوتة بين الصدغين وفي مؤخرة الرأس يسكن لحنا فيروزي يتأرجج مختنقا وهو يحاول التحليق خارج نطاق الكون .. نسمات ليلية خفيفة تلفح قسمات الجسد المسكون بإرتعاشات لا مرئية وقد ارتخت عضلات الوجه المبلل بحبات العرق النازفة فوق الرمال ، الاحلام منطفئة والمشهد دمعة يلعب بها القدر المباغت المتدفق بالالم في حضرت أوتار العود وزجاجة باخوس مدفونة في الرمال ، ليصبح الصمت سيد المكان والالحان تنتحب بصوت مخنوق تنشد أغنية جنائزية بشيء من العذوبة .

مشهد أخير…

الليل الضائع يتلاشى ، عيون النهار تستيقظ مبيضة الرموش ، بينما العصفور يغني ، يصفق بجناحيه في الهواء ، ثم يطير محلقا نحو الأفق البعيد حيث كانت الشمس تنتظر مجيئه .