سارة نلسون

0
2438

قصة بقلم / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي

بليلة مقمرة جميلة ينعكس نورها على صفحة البحر ، التقيت بها صدفة في رحلة علمية عبر المحيط الهادي على متن بارجة ضخمة عُدت خصيصا للبحث العلمي ، كأنت تقف منحنية على أحد قضبان الحديد الذي يطوق البارجة من جميع الجوانب ، تنظر نحو المحيط على طول إمتداد بصرها وكأنها تشاهد شيئا ما وتراقبه بعمق شديد ، شدني نحوها شعرها الذهبي الذي تتقاذفة الرياح وتتلاعب به شعرهً شعره 

شعرها الذي يلامس خاصرتها النحيفة الهزيلة ومؤخرتها البارزة المستديرة ، اقتربتَ منها وأمسكت بالقضبان فإذا بها تستدير نحوي ثم تبتسم .. أوه مسيو جيكوب ، لم أظن في لحظة إن صاحبة هذا القوام الجميل هي الدكتورة سارة نلسون ، لم أعلم إنها من ضمن طاقم البحث العلمي الذي غادر مينا لشبينا ، نحن علماء من عدة دول من العالم تطوعنا في القيام بهذه الرحلة الإستكشافية لمثلث برمودا ، لكنني لم يكن في حسباني بأني سوف ألتقي بسارة نلسون منذ ما كنا معن في الجامعة ، أتذكر حين كانت رفيقة جون أندرسون الشاب الذي يفوق الجميع وسامتا في الجامعة ، كما كانت هي أكثر الشابات جمالا وفتنة

كان الجميع يتمنى أن تكون رفيقته وكنت أحدهم ، وها هي الآن برفقتي على متن البارجة ، لابد إنها سوف توقظ حلم الأمس مرة اخرى إذا كانت ودعت بالفعل رفقة جون أندرسون بعد التخرج ، رحبت بي كما رحبت بها بحرارة ثم عانقتني ، لقد اندفعت نحوي بشدة وكأنها مشتاقة فعلا لعناقي منذ سنين ، ظلت ملتصقة بي وهي تقول .. أوه جيكوب لقد أشتقت إليك ، كما إني فتقدتك كثيرا بعد الدراسة ، تعجبت من كلامها وهي تهمس في أذني بهذه الكلمات وكأني حبيبها الضائع منها سنين

هنا تجرأت وسالتها عن حبيبها جون أندرسون ، لم أكن أطيق الإنتظار حتى أسمع أخباره ، ضحكت ثم نظرت إلى عيني مباشرة وهي تقول .. أما زلت تغار من أندرسون ، قلت لها أنا .. طبعا لا ، لكنها أردفت قائلة .. إنني ألاحظك دائما عندما اكون في حرم الجامعة أو في صحبة أندرسون عيناك تشتعل نار وكأنك تريد أن تنقض عليه وتفتك به ، لم أعلم إنها كانت تراقبني مثلما كنت أرقبها ، لكن لماذا كانت تراقبني ؟! ، هل كنت أعني لها شيء ؟ .. لا أدري ، إذا أنتِ كنتي أيضا تراقبينني .. وهذا يعني إنني كنت أعجبك ؟ ، لا لم تكن تعجبني إطلاقا .. هكذا ردت بكل برود وهي تبتسم في وجهي وكأنها تقول إنني كنت أشفق عليك منك على نفسك ، لقد صدمني ردها لم أكن أتوقعها بهذه الوقاحة أبدا ، فجمالها لم يوحي لي للحظة إنها هجومية أبدا ، الآن عرفت فقط إن خلف هذا الجسد والوجه الجميلين امرأة قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، لكن احتضانها لي بهذه اللهفة والشدة يقول غير ذلك ، فهل ياترى تخشى أن تبوح بإعجابها لي وخاصة بعد أن تركها جون أندرسون أو قد يكون هجرها ، فأحست بالسخط والسخرية من نفسها بعد أن تركها هو وليست هي من تركته ، كل شيء ممكن ؟! ، قلت لها لم تجيبيني بعد .. هل ما زالت العلاقة بينكم مستمرة اقصد علاقتك بجون أندرسون ؟ ، ضحكة بقهقه عالية ثم استدارت نحو البحر تنظر إلى الأمواج التي تأتي من جانبي البارجة ، ثم قالت .. مسكين أنت جيكوب ، لقد كبدت إعجابك نحوي من أجل حب مجهول أنت وغيرك من طلاب الجامعة ضنوا ذلك 

ثم رمقتني بنظرة فيها من التأنيب واللوم ما يكفي أن يهد صرح عاشق ، لم يكن أبدا جون أندرسون حبيبي مطلقا ، صدمتني مرة أخرى بهذا الجواب الصاعق ، فقلت لها .. إذا ما الذي بينكما إذا لم يكن حبا ويدك بيده طول الوقت ؟! ، ذرفت دمعتين من محاجر عينيها لتتلقفهما مياه البحر ، ثم توالت الدموع تنهمر تباعا حتى إني أشفقت لأمرها ، جون أندرسون كان الحارس الخاص الذي عينة والدي ليكون سمعه وبصرة ويداه ورجليه التي يبطش بهما ، ولم يكن يوما طالبا كما أعتقد الجميع ، بل كان نقيبا في الأمن الداخلي ، ولأن ولدي كان يشغل قائد فريق شبكة الأمن برتبة ميجر ولى أمري إلى جون الذي مثل دور الحبيب كما ينبغي ليبعد عني كل شخصا بالجامعة يطلب قربي ، أبي كانوا له أعداء فقد كان رجلا غير محبوب في عمله أو علاقاته مع بعض رجال الأعمال الكبار أو أصحاب النفوذ في البلاد ، فقد قبض على الكثير منهم وعلى ابناءهم وأسقط بمصالحهم التجارية وغيرها من المسائل التي يعمل عليها الأمن الداخلي من خلف الكواليس ، وقد نبه أبي على جون على ألا أقوم بالإندماج مع أي من الطلبة بشكل عاطفي او تقربي ، وهذا ما جعل الكثير يضن إنني معشوقة جون أندرسون

هل فهمت الآن مسيو جيكوب ، قلت في نفسي ياإلاهي ما هذا الذي اسمعه ، إذا كنتي سجينة رغم كل شيء يحيط بك من مال وجاه وسلطان ، لم تكوني حرة ولو لمرة طول فترة دراستك بالجامعة ، فردت .. بل قل طول فترة حياتي ، منذ ما أصبح أبي في الأمن الداخلي وحتى تقاعده ، لقد صاحبة وسواس الإنتقام والإغتيال طوال فترة وجودة بالوظيفة ، مما أثر سلبا على حياتنا كأسرة جميعا ، حتى جيراننا لم نكن ننخرط معهم في علاقات طبيعية ولا أحدا يزورنا ولا نزور أحدا إلا عوائل أصدقاء أبي العسكريين 

كان لابد أن تمشي حياتنا كما أرادها والدي وإلا كان العقاب حاضرا دون تأجيل ، هنا فقط أدركت مدى المعاناة التي عانتها سارة نلسون طول هذه السنوات الماضية ، فعلا النظر من بعيد على من حولك لا يجعلك تعرفهم كما هم على حقيقتهم في الواقع ، فليس دائما كل ما يبرق ذهبا ، حدثت نفسي أثناء صمتها ، هل القدر صنع كل هذا من اجلي ، هل القدر من جلب لي سارة نلسون الآن وليس قبل ؟ ، كل هذه الأسئلة وغيرها كانت تدور في ذهني دون أن تهدأ ، دموعها ما زالت تستقبل البحر حين مددت يداي وامسكت بكتفها وجعلتها تنظر في عيني حين مسحت بكف يداي على خدها الذهبي ثم دنوت منها لأطبع على شفتيها قبلة انتظرتها سنين طويله .. بل لم أكن أحلم بها يوما ما ، عانقتها ولا أدري كم طال عناقي لها ، لكن تنهداتها أرسلتني إلى عالم إلا واقع لأسرح بعقلي وقلبي في لب جسدها الممشوق من أسفل اصابع قدميها حتى أعلى شعره في رأسها 

ما أيقظني من حلم اليقظة سوى صفارة البارجة واعادتني إلى واقعي الحقيقي وهي ما زالت تتنهد وترتشف سوائل أنفها الذي أصبح ورديا ، أخذنا بعد ذلك نتجاذب الأحاديث ، حديث تلو الأخر ، لقد تحدث كلا منا عن حياته وعالمة الخاص ، فكنا مع بعضنا ككتاب مفتوح منذ أول ليلة نلتقي فيها بعد غياب سنين ، رافقتها إلى غرفتها على متن البارجة فدعتني إلى الدخول ، لم نشعر بالوقت الذي قضيناه معا إلا مع طرق باب الغرفة من قبل مأمور البحث العلمي ليوقظنا من منام الأمس الجميل الذي سوف يخلد ذكراه في نفسي وقلبي إلى الأبد .