الاجتهاد والتنافس إلى آخر لحظة

0
2174

بقلم : ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

تحزن القلوب وتفيض بالأدمع العيون على فراق هذا الضيف العظيم فقد مر طيفه علينا مسرعًا كومضة تمعن فيها من تمعن ومتع بها ناظريه من متع واكتحل بها من اكتحل فهنيئًا لمن غالب الرقاد وجالس الخلوات وجافى المضاجع وشمر إلى الجنات وختم شهره بالعبادة والقربات

فقد مرت أيام هذا الشهر وكأنها في مضمار تكاد تبصره عن بعد والأسرع من ذلك العشر الأواخر منه وقد توالت فيها في هذا الشهر الوفيات ويكاد لا يخلو منها يوم فسبحان الحي الباقي الذي لا يموت خلقنا من العدم ورزقنا من الطيبات وكتب علينا الموت ويسر لنا الحسنات وحذرنا من الوقوع في الحرام ومقارفة السيئات اللهم صب شآبيب رحماتك ورضوانك على جميع الأحبة الذين فارقونا إليك والذين نشهد لهم بالتقوى والإيمان وأسكنهم برحمتك فسيح الجنان

أيها الأحبة القراء لا تجعلوا من شهر رمضان محطة عابرة ومؤقتة للعبادة فما إن رحل انقلبتم على أعقابكم فالمرء يرغب فيما عند الله وزيادة بل اجعلوا منه الانطلاقة بمضاعفتها والزيادة، ولا تنتهي العبادة بأي حال من الأحوال بانتهاء شهر رمضان المبارك ولا تنتهي الصلاة ولا ينتهي الصيام بل ولا تنتهي جميع أعمال البر والخير ولنكن ربانيين نُديم لله العبادة والذكر وكثرة الشكر في الليل والنهار، لا رمضانيين نعبده في شهر واحد فقط ونضرب بباقي الشهور عرض الحائط ونركن إلى الدنيا وإلى الذين ظلموا فتمسنا النار، نعم لا نختلف أن رمضان سيد الشهور ومنزلته بين الشهور كمنزلة النبي يوسف عليه السلام بين إخوته كما شبه بذلك أحدهم ، كما أننا لا ننكر أن لشهر رمضان كراماته وبركاته فهو لا يأتي إلا بالخير العميم والأجر العظيم ولكن رب رمضان هو رب باقي الشهور وله الحكم وبيده مقاليد الأمور

سبحانه أكرم مقصود وأجل معبود يسر لعباده سبل الخير وأكرمهم بعظيم الأجر ، تواصل معي أحد الإخوة يسألني عن أحد الليالي العشر من شهر رمضان المبارك قائلًا لي :- ما هو رأيك في ليلة البارحة قلت له لا أعلم وماذا عساني أن أقول قال لي لا تكتم، فقلتُ في نفسي ما هذه العجلة ومن أنا ومن أنت كي نحكم وما هو العلم الذي أوتيناه كي نجزم بل ولِمَ ننشغل بهذا الأمر ولا تزال هناك بقية من الليالي لنظفر بأجرها ونغنم ، كيف والعشر الأواخر في مستهلها ونحن نشغل أنفسنا بليلة واحدة وقد ذكرنا ذلك مسبقًا وقلنا قم الليالي العشر كلها ولا تسأل بعد ذلك أي الليالي كانت هي ليلة القدر وأي الليالي هي بينهن وستشملك البركة وتحفك الملائكة وتأنس بك وأنت لا تعلم ، وقد ذكرت له قصة احفظها عن شيخي سعيد بن حمد الحارثي رحمه الله حيث ذكر لي الشيخ قصة عجيبة فيها الجواب الشافي لما سأل عنه هذا الأخ الكريم وتدل هذه القصة على الحكمة من إخفاء ليلة القدر ولكي يكون الاجتهاد والتنافس إلى آخر ليلة منه بل وإلى آخر لحظة من لحظات هذا الشهر المبارك

و إليكم القصة كما سمعتها بنفسي من الشيخ رحمه الله، ذكر لي الشيخ أنه أتاه زائر وتحدث عن ليلة القدر قائلًا أن ليلة القدر كانت الليلة الفلانية وأتى بدليل وأتاه آخر وذكر له ليلة أخرى غير الليلة التي ذكرها الأول وذكر له دليلُ ما رأى أيضًا وهكذا حتى وصلوا إلى أربعه ولكل واحدٍ منهم ليلته ودليله وهذا كله في نفس العام ونفس الشهر حينها قال لي الشيخ إذًا الآن يا ماجد أيٌ من هذه الليالي هي ليلة القدر وقد صدق الجميع فيما ذكروه لي ، ثم قال هذه حكمة أرادها الله وجعلها لكي يتنافس الناس في العبادة ويقبلوا على الطاعة حتى يوفيهم أجورهم ويمن عليهم بالحُسنى وزيادة

وقد كنا في زيارة للشيخ سعيد بن خلف الخروصي رحمه الله أنا وشقيقي الأكبر خالد حيث سأل شقيقي الشيخ عن علامات ليلة القدر فقال الشيخ رحمه الله هي ليلة مُنيرة تتميز بنورها أكثر عن باقي الليالي وهي ليلة هادئة لا تسمع فيها أصوات مزعجة كأصوات البهائم ونحوها فهي سلام كما أخبرنا الله جل جلاله عنها في القرآن العظيم وقد يميزها البعض وقت خروجها حيث أن شعاع الشمس في صباح تلك الليلة يكون خافتًا ليس بالشعاع اللاسع أو اللاذع وربما أتت ليلة سبقها شىء من الغيث وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه عنها ورأيت في غدوتها كأني أسجد في ماء وطين (الحديث) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما قال عليه الصلاة وافضل التسليم، وخلاصة القول اغتنم شهر رمضان حتى ولو بقت منه ساعة فلعل هذه الساعة لا تتكرر

نسأل الله العظيم أن نكون ممن صام رمضان حق الصيام وقامه حق القيام ونسأل الله أن نكون ممن وفقنا لقيام ليلة القدر واجعلنا ممن صام وقام رمضان ايمانًا واحتسابا وممن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من نيرانك واجمع بيننا وبينه أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، وكل عام والجميع بخير.