وكأنني على موعدٍ مع الوادي

0
1744

بقلم/ ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

منذ أشهر قلائل مرضت مركبتي وتوالت عليها الأسقام من سقم لآخر فهي لا تكاد تبرأ من علة إلا وتعاجلها أخرى وأنا متمسك بها وهي من قبيلة متسوبيشي التي تعرف ب لانسر وقد أكملت أعوامها السبعة معي وهي مدة ليست بالطويلة أمام المركبات القوية القديمة أما السيارات الحديثة فهي دون هذه المدة كما يقول خبراء المركبات في الصبر والتحمل وربما لحقني بعض التقصير تجاه أدويتها اللازمة ولا يخلو المرء من تقصير على أي حال وهي كما يقول أهل عُمان أصل بطن وظهر من صناعة اليابان

وهي آخر الأنواع بتدخل من أيادي الصنع اليابانية حيث أوكلت ما بعدها من انواع لأيدٍ عاملة أخرى من بلدان مختلفة وهكذا هي التجارة ولا يظل الشىء على حاله أبدًا ، وهي ليست من السيارات الفاخرة لا ولكنها تناسبني وانا سعيد بها وصدق القائل :-
والنفس راغبة إذا رغّبتها
وإذا تُردُ إلى قليلٍ تقنعُ
وقد طرأ عليها مؤخرًا مرضٌ مفاجىء ارتفعت على أثره حرارتها واحمرّ وجهها الأبيض من شدة المرض وقد أخذتها للمشفى الكبير بالوادي الكبير وقد ظهر لي سبب العلة من قبل وأخبرتُ أطباء المركبات هناك ليقوموا باللازم ولم أخبر أحدًا لأنني خرجتُ قبل العصر ولم أرد إزعاج أي أحد في ذلك الوقت وهو وقت راحة ولكي أعود أدراجي للعامرات، بعد تركها هناك خرجت من مشفى المركبات

وقد رأيتُ صاحب ورشة للأخشاب وقد استعد للخروج هو الآخر وقد ركب مركبته وهو باكستاني الجنسية مُسلم الديانة واسمه محمد سألته إلى أين قال ذاهب للحيل جهة السيب قال لي تفضل قلت له أتقصد طريق وادي عدي قال نعم قُلتُ له إذا تتكرم أصحبك إلى هناك ثم تكمل طريقك قال تفضل تجاذبنا أطراف الحديث باللغة الانجليزية فتبين لي أنه في عُمان منذ ما يزيد على ثلاثة عقود وذكر لي أنه سعيد هنا في عُمان بسبب أخلاق أهلها وبساطتهم وعفويتهم وتعاملهم الراقي وهم أهل مودة وكرم، يقول وقد لمست هذا خلال هذه الفترة الطويلة التي قضيتها هنا في عُمان ولم نشعر أثناء الحديث بالوقت وقد داهمنا شكرته لحسن صنيعه معي ونزلت عند اشارات مرور وادي عدي لأعبر الشارع الجهة الأخرى كي ألحق صلاة العصر بجامع سلمى وإذا بالشيخ الأستاذ خليل المحرزي أحد أئمة جامع سلمى أمامي وإنها لصدفة جميلة فاستقبلني من بعيد بطلاقة وجهه وابتسامته البهية وقد خرج من الجامع لتوه وقد تواجهنا قبل الجامع بأمتار وقد سلم عليّ وناداني باسمي من بعيد فهو سباق للخير دومًا كما عهدته وهو ممن يتابع مقالاتي ويبدي ملاحظاته التي لاغنى لي عنها من تنبيهات ومراجعة.

ولا شك أن المؤمن قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه سألته أستاذي خليل هل صليتم العصر قال نعم قلتُ فاتتني الصلاة معكم قال لي بماذا أخدمك قلت له لا شكرًا بارك الله فيك تركت مركبتي بالوادي الكبير للإصلاح قال لي بماذا أساعدك قلتُ له لا عليك شكرًا جزيلًا توادعنا فدخلت الجامع للصلاة وصليت جماعة أيضًا ولله الحمد وأسأل الله القبول جلست في الجامع قليلًا ثم خطرت ببالي فكرة وكأنني على موعدٍ مع الوادي لماذا لا أقطع وادي عدي الطريق القديم مشيًا وحتى وادي مدخل البجرية قلت في نفسي اتزود ولو بقنينة من الماء أحملها في جيبي وقد عينت وقت وصولي إلى مشارف وادي البجرية في وقتِ المغرب بحول الله وقوته توقعًا مني وليس جزمًا فالمُسير هو الله وحده وبه الأمل وعليه المُتكل فلم يخيب الله ظني وأعطاني على كلمتي وهو الموفق ، على أن أصلي المغرب إن كتب لي ذلك بمسجد الشيخ سالم بن حمدون يمين الدوار الأول للعامرات .

رغم طول المسافة إلا أنني لم أشعر بالوقت وقد آنسني يُعار الشياه وهو صوت مواشي الرعيان من معز وضأن كما رافقني خرير المياه وهو من أعذب الأصوات التي تلامس القلوب وكأنه تسبيح لواهب الوجود وذكر لعلام الغيوب وهو خرير لا يضاهيه خرير وقد أعرتُه سمعي فسبحان اللطيف الخبير كما أصغيتُ لزقزقة العصافير وهديل الحمام وغيرها من الطيور التي تبني أعشاشها قرب المورد والغدير، ورأيتُ الفراشات الجميلة وتحليق اليعاسيب فكل يسبح بحمد الله بلغته وطريقته وقد اضطررت للخوض في كثير من الأحيان في المياه لجريان ماء الوادي منذ آخر غيث أكرمنا الله به فله الحمد ونطمع بالمزيد .

كان الأهل يتواصلون معي للاطمئنان على الأحوال وكيف يكون رجوعي من الوادي الكبير فأخبرتهم أني بوسط وادي عدي وقد أرسلت لهم بعض الصور التي التقطتها من هناك وفي حقيقة الأمر هذا الوادي ليس بغريب عليّ فقد قطعته مرتين قبل ذلك ذهابًا وإيابًا وهذه المرة الثالثة إيابًا فقط وقد أخذتُ عمودًا خشبيًا من الأرض لأتكأ عليه أثناء الصعود والنزول ولاختلاف طبيعة الأرض في ذلك الوادي المُبارك فالجبال تحيط بها من كل مكان كما أن هذا العمود ينفعني في إزاحة بعض الاشواك التي تعترض الطريق لا سيما أشواك شجر الغاف الملتف والذي يسمى بالغاف البحري وقد ينفع هذا العمود في مآرب أخرى لأي أخطار تطرأ والأخذ بالأسباب مهم ولا بد منه بعد الاعتماد على مُسبب الأسباب وكاشف المعضلات الصعاب .

وقد حدثتني نفسي بعد أن أخذت هذا العمود من الأرض بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كي يتعطر الوادي بمسك طيبه وتذكرت رعيه لغنم أهل مكة على قراريط في مقتبل عمره فما بعث الله نبيًا إلا ورعى الغنم ولعمري ما في هذا العمل من صبر وأمانة وتحمل مسؤولية وصقل للنفوس ورفق بالحيوان ، أجيلُ النظر يمنة ويسرة وأرمق الجسر الشاهق وقد تسامى بالعلو فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم وسخر وذلل له كل شىء
وتعجبت من بعض الطيور عندما تقترب من أماكن أعشاشها تبدأ بالهلع وتحلق بعيدًا كي تبعدك عن أماكن أعشاشها وتشغلك بنفسها وتبعد الخطر عن مستعمراتها فأيُ زائر وغريب عن المكان يُعد خطرًا عليها وقد لمحت منها في هذا الوادي وهي قريبة في الشكل من الطائر المُسمى أبو ناغور وكذلك بعض الطيور الأخرى المتفاوتة وهناك النوع الذي يسميه أهل عُمان ضاضوة والبعض منهم يقول مضيضوة .

وتختلف المسميات من بلد لآخر وأذكر في إحدى المرات قطعت نصفه من وادي البجرية نزولًا إلى نفق ينقلك يمينًا تجاه وادي شعم فتعمقتُ إلى الداخل وتوغلت مسافة فيه بضع الكيلو مترات وإذا بي وسط وادٍ من الصخور بين جبلين وأشجار السدر المعمرة على جنبات ذلك الوادي مع بعض أشجار السمر وفجأة ظهر لي ظبيٌ عن يميني وكان سريع التنقل أعلى الجبل وقد اختفى في غمضة عينٍ بلونه البراق المميز الذي يبهر الأنظار وقد قفز قفزات يسيرة كانت كفيلة برحيله السريع، تواصل معي الأهل مجددًا وقد بلغت حلقوم ذلك الوادي على مشارف الجسر العالي وما هي إلا دقائق معدودة وأصل بعون الله وتوفيقه وقت المغرب كما كنت أتوقع وإذا بالأهل ينتظرونني بمركبة على يمين وادي البجرية الجاري فقربوني لمسجد أنس بن مالك الذي بمنطقتنا وإذا بإمام المسجد سُلطان الهادي يقيم لصلاة المغرب فتوضأت وانتصبت معهم للصلاة وكأنني كنتُ على موعدٍ مع الوادي .