احتال ولا تسرق

0
2245

بقلم / د.هاشل بن سعد الغافري

(1)

جاء في المثل: “احتال ولا تسرق” .وقد استخدم الأولون هذا المثل للتأكيد على السلوك الإيجابي” الحيلة ” مقابل النهي عن ممارسة السلوك السلبي ” الاحتيال ” .فالحيلة هي الحذق ودقة النظر والقدرة على التصرف في الأمور بينماالاحتيال يعني النصب والخداع والتضليل للوصول إلى منفعة خاصة .

ومن منطلق الثنائية في حياة الإنسان فإن كلاهما( الحيلة والاحتيال) يخرجان من مصدر واحد ولهما الجذر نفسه إلا أنهما يفترقان في الهدف والإجراء والنتيجة ” ِإنَّا َهديناه السبيل إما شاكرا واما كفُورا” ( الإنسان /3) .فالحيل النفسية أو الدفاعات النفسية مثلاً يلجأ الإنسان إليها للتقليل من الصراعات في داخله وحماية ذاته من التهديد الداخلي أو الخارجي و هذه الحيل تساعد الفرد في التخلص من القلق و التوتر الناتج من عدم القدرة على حل مشكلته ومن أمثال الحيل النفسية أو الدفاعية التعويض والاحتواء والإسقاط والانسحاب والتثبيت وغيرها.

أما الاحتيال فله مفرداته المتعددة مثل النصب والغش والتدليس والتزوير بقصد الحصول على منفعة مادية أو غير مادية دون وجه حق

   (2)

الفساد مفهوم واسع جداً تندرج تحته مفاهيم عدة كلها تؤدي إلى فساد في الأرض لذلك لا يتصور أن تكون هناك مؤسسة إلا وفيها شرذمة قليلون من صنف الشيطنة البشرية أو البشرية الشيطانية يسعون لممارسة أنماط مختلفة من الفساد .لكن وجود هذه الفئة لا يبرر تجاهل وقوع الفساد بل ينبغي ضربه بعصا من حديد ومكافحته بكل الوسائل والسبل.

ومن هنا جاءت أهمية تفعيل التشريعات والأنظمة والقوانين التي تضبط السلوك الإنساني العام.

فالفساد إذاً لا يقتصر على اختلاس بضعة ملايين بالنصب والاحتيال والتزوير بل للفساد صور أخرى متعددة ،فالموظف الصغير الذي ينجز المعاملات المتأخرة أو المتعسرة مقابل مبالغ يتقضاها قد تصل خمسة أضعاف راتبه هو لاشك فاسد والمراجع الذي قدم الرشوة فاسد أيضا فالراشي والمرتشي في النار وقس على ذلك الكثير من الصور للسلوكات الفاسدة التي قد تصبح سلوكاً عادياً بمرور الوقت .

(3)

من يمارس الفساد كالسرقة والرشوة والاختلاس يجب أن ينسب الفعل إليه على وجه الخصوص وليس للمؤسسة بمعنى عندما يسرق أحد العاملين في وزارة التربية مثلاً لا يمكن أن ينسب الفعل للتربية أو التعليم فيقال كيف يسرق وهو في مؤسسة تربية وتعليم فكما وجد المفسد في وزارة التربية والتعليم يمكن أن يوجد أيضاً في المؤسسات الدينية والعدلية والأكاديمية وغيرها فالفساد ليس له دين ولا هوية ولا جنس ولا جنسية .

(4)

لا نختلف في أن ما حدث في وزارة التربية والتعليم جرم لا يقبل به أحد ومن قام به يستحق أشد أنواع العقاب .

لكن الذي يدعوني للتساؤل لماذا أخذت هذه القضية كل هذا الصدى الكبير؟ ولماذا تعامل الناس معها بهذا الغضب الشديد ؟ هل لأنها حدثت في مؤسسة تربوية يفترض ألا يحدث فيها ذلك من وجهة نظر المجتمع ؟ أم إن ذلك نوعاً من الإلهاء لإشغال الناس عن قضايا أكثر أهمية وخطورة كما يقول نعوم تشومسكي ..

في الحقيقة لا أدري، مع أن هذه القضية ليست الأولى خلال العقود الأربعة الماضية فقد سبقتها قضايا أكثر سوءاً وخطراً على الدخل القومي خاصة ما يتعلق منها بعقود الشركات الكبرى ومع ذلك لم تأخذ تلك القضايا أي صدى من أفراد المجتمع.
على الرغم من طرح بعض أعضاء مجلس الشورى تلك القضايا علناً تحت قبة البرلمان .

(5)

انشغل الناس بقضية الاختلاس حتى أصبحت حديث المجالس وتختلف الروايات يوماً بعد يوم في قيمة المبلغ المختلس أو المسروق كما يحلو للبعض أن يسميه  انشغل الناس بها وكأنها أكبر قضايانا وأعظمها وكأنه لم يأت بها أحد من قبل ومن بعد وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير وكأنها السبب الرئيس في قضية الباحثين عن عمل وهي السبب في تأخر الترقيات وهي السبب في انخفاض الإيرادات.

ومعظم الناس بات يلعب دور المحقق والدفاع والقاضي ولا أحد منهم يعرف تفاصيل القضية ،فالقضية في يد جهة ذات اختصاص وهي تقوم بدورها في تقصي الحقائق ودراسة تفاصيل القضية وملابساتها وعلينا جميعاً انتظار ما تصل إليه نتائج التحقيق . إن الاستغراق في الحديث عن هذه القضية أثر تأثيراً سلبياً على مستوى الأداء العام للموظفين على اعتبار أنهم يقضون أوقاتاً طويلة من ساعات العمل في الحديث عن هذه القضية كما أثر سلباً على الأداء التدريسي خاصة وعلى منظومة التعليم عامة خاصة أنه لم يتبق إلا شهر واحد عن موعد الاختبارات.

إن كل ما ذكر آنفاً أوصل المجتمع إلى درجة الاحتقان لذلك أدعو الجميع إلى التقليل من حدة الاحتقان تجنباً لحالات القلق والتوتر والضط
النفسي ولنترك الأمر لجهات التحقيق وننتظر النتائج وبعدها لكل حادثة حديث

(6)

ظهور النكتة الساخرة في مجتمع ما دليل على وجود أزمة نفسية يعيشها أفراد ذلك المجتمع وأسبابها عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية ، وقد ظهرت النكتة الساخرة في المجتمع العماني خلال السنوات الأخيرة بشكل واضح وهذا يحتاج إلى دراسات نفسية واجتماعية للكشف عن عواملها ومسبباتها وآثارها لكونها مؤشر قوي لتغير نمط الشخصية العمانية .

(7)

النظام الأخلاقي أحد الأسس المتينة التي يقوم عليها المجتمع العماني فكل النظم والقوانين التي تضبط السلوك العام في المجتمع العماني منبثقة من دستور النظام الأخلاقي إلا أن التغيرات العالمية المادية بأشكالها المختلفة صنعت فجوة كبيرة بين الأخلاق كنظام دستوري وبين الممارسة الحقيقية لتك الأخلاق على أرض الواقع فتولدت عن تلك الفجوة انحرافات أخلاقية أثرت سلباً على قيم الضمير والمثل العليا .

والناس يتفاوتون في درجة الانفصام بين الإيمان بالقيم ودرجة تمثلها وممارستها بالفعل فقد يحافظ على صلواته الخمس لكنه لا يتوانى أن يشهد زوراً أو يتفنن في صناعة الكذب لتبرير غيابه عن العمل أو ينجز معاملات المراجعين مقابل مبلغ من المال أو يرشي أو يرتشي مقابل تحقيق مصلحة مادية أو الوصول إلى منصب معين وهذه الانحرافات السلوكية يشاهدها العامة لكنهم لا يستطيعون اثباتها بالأدلة المادية فيقابلونها بالصمت والتجاهل .لذلك أرى أننا بحاجة ماسة إلى سد الفجوة بين النظام الأخلاقي كدستور والنظام الأخلاقي كممارسة حياتية ، فالقيمة الأخلاقية لا يكون لها أثر حتى تخرج من طور التنظير إلى طور التطبيق.

(8)

“نبض الشارع” مؤشر جيد لرصد أحداثيات الواقع ،فهو يعنى بقراءة أجزاء الحدث وجزيئاته وتفاصيله داخل المجتمع ولديه خاصية الاستشعار عن بعد يستطيع من خلالها أن يمارس عملية توقع الحدث المستقبلي. لذلك كان من الأهمية بمكان الاهتمام بنبض الشارع وقراءته بعمق وأخذ توقعاته بعين الاعتبار فهو بلا شك يساعد صانع القرار في تحديد البوصلة للسير في الاتجاه الصحيح واتخاذ القرار الصحيح.