الإسلام الشمولي … ومعادلة الفرد- ٢

0
1575

لقد أحدث مقال الأمس كثيرا من ردود الأفعال الموجبة، وتلك المتساءلة ما أوجب علي إلحاقه بآخر تتمةً وبيانا.

لقد عُني المقال بمحاولة استجلاء الصورة الكاملة للعلاقة بين الدين الإسلامي وبين غيره من الرسالات السماوية والأديان، ووضع الفرد من ذلك كله، وقام بتأسيس نظرته التي تُميز بين المنهج العام وبين الفرد، فجعل الدين الإسلامي بكتاب الله الخاتم (القرآن الكريم) وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي المرجع الأعلى والمنهج الأقوم المهيمن على مناهج العالمين وأديانهم، بينما استثنى الفرد من هذه الهيمنة والنجاة، وقَيَّدَ ذلك بتحقيق ما قامت به الحجة عليه لبلوغ غاية دين الإسلام الشامل ومنهجه من العمل الصالح والإيمان بالله واليوم الآخر، مما جعل الفرد بهذي الصفة ممكنا من المسلمين ومن غيرهم، كشخص أو إنسان وليس كمنهج.

ولتبيين معنى معادلة الفرد دون المنهج نضرب مثلا برجلِ دينٍ – وينسحب ذلك على الفرد أين كان وما كان- فمن حيث المنهج، فالإسلام هو المنهج والدين المهيمن على دينه، ومن حيث كونه فردا فإن قامت الحجة مثلا عليه أمام الله بمحمد وشريعته، بالنظر للتقنيات الحديثة، فلم يؤمن استكبارا وهوى، أو حتى لا يذهب مركزه، وعمل صالحا ظاهرا نتيجة لها، فذلك لن ينجيه ولن يجعله من الفائزين! لأن عمله الصالح كان مشوبا بالشرك (الرياء، رضى الآخر، المصلحة الفردية والقومية دون حق).

وإن لم تقم الحجة عليه رغم التواصل اليوم لأمر يعلمه الله، وكان هو مؤمنا بالله الواحد، مخلصا له، موقناً باليوم الآخر، ويعمل على ضوء ذلك الصلاح، فهو ناجٍ بحكم الله في الآية الكريمة وبعدالته السماوية، إذ لا يكلف الله نفسا الا وسعها.

أما الخمر والزنى والموبقات، فالفطرة هي الفيصل، لضرها الظاهر، وما تورثه من عقوق في الحياة، وهي حجة الله عليه، ولا يعذر بمجرد أنه لم تصله شريعة أو عقيدة إلا ما علم الله.

لقد وجدتُ – وهو ما حملني على كتابة هذا الجزء من المقال- وجدتُ تمام الصورة التي قدمها المقال تتجلى في كتاب الله الكريم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، في بعض ما حكاه من قصص الأنبياء والشرائع السابقين.

لقد جاء موسى عليه السلام وبعث في بني إسرائيل، ليس لينقذهم من فرعون حسبُ، ولكن جاء بشريعة جديدة وبكتاب جديد (التوراة)، ولكن ليس بدين جديد، فالدين هو الدين الأزلي (الإسلام)، لقد مَثَّلَ موسى وبنو إسرائيل يومها المسلمين اليوم، بكتابهم ومنهجهم، فكانوا هم المسلمين، وكان كتابهم التوراة هو الكتاب، إلا أن الفرد كما كان يعيش ضمن المسلمين ونبيهم (بني إسرائيل)، كان أيضا يعيش في أمم أخرى، وتحت عقائد وشرائع وكتب ليست مرتبطة بفئة المسلمين يومها، تماما كما هو الوضع اليوم، فما كان حكم الفرد من خارج المسلمين وداخلهم حينها؟!

إن في خروج موسى عليه السلام وتركه للمسلمين من بني إسرائيل وقصته مع العبد الصالح الجوابَ على ذلك، وفيه أيضا تثبيت الركن الثاني من محاور المقال (معادلة الفرد)، فموسى مر على طول القصة بأفراد من شرائع وأمم ليسوا من شريعته ولا أمته، أي ليسوا من المسلمين (اصطلاحا)، بل كان سببَ تلكم الرحلة المجهدة في القارب، ومواطنها الثلاثة (السفينة والغلام والجدار)، كان سببَ الرحلة فردٌ منهم، شهد الله له بالصلاح، وجازاه لذلك خيرا عميماً ( عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)، فصحبناه في رحلته الماتعة، والتي فيها كان مرورهما على أفراد آخرين، كان مدارَ الأحداث إيمانُهم وصلاحُهم، والذي شهد الله لهم به؛ الأبوينِ اللّذَينِ استحق ولدهما القتل لعقوقه وجرمه، فقد سماهما الله سبحانه (مؤمنَيْنِ)، وكان قتله خوفا عليهما من طغيانه؛ والغلامينِ اليتيمين في المدينة، فمن بِرِّ اللهِ تعالى بأبيهما الصالح (المتوفى)، أرسل عظيمين من عظماء وقتهما (موسى والعبد الصالح) في خدمتهما بإقامة جدار الكنز حتى لا ينكشف لحين بلوغهما..

لقد كانت كلُ تلك الحالاتِ حالاتٍ فرديةً صلحت بعد ما قامت عليها الحجة فيما علمت، فعملت على ضوءه، بينما لم تكن تلكم الحالات (الأفراد) كمنهج وشريعة من المسلمين يومئذ (بني إسرائيل)، ولا من أتباع رسولهم، وهو بين ظهراني الحياة، بل هو من قابل هذه الحالات ومن وقف عليها، دون أن يقدح ذلك في إيمانهم وصلاحهم الوحداني أو الفردي، رغم عدم انتسابهم لبني إسرائيل (المسلمين)..ولنا أن نتخيل كم فرد مؤمن وصالح غير هؤلاء (الرجل الصالح، الأبوين المؤمنين، أبي اليتيمين الصالح..)، ممن كان مؤثرا أو متأثرا بهم، ويعيش في محيطهم من أهلهم وأصدقاءهم وجيرانهم على طريقتهم ومنهجهم، كما إن الظالمين من الأفراد كانوا حاضرين في ذات الحقبة، حاضرين في المسلمين (بني إسرائيل) ممن عبد العجل وخالف هارون، وفِي الأمم الأخرى كما في القصة من ملك ظالم يأخذ كل سفينة غصبا، فالله في هذا التجلي العظيم بقصة موسى داخل بني إسرائيل (المسلمين)، ورحلته خارجهم، يؤكد للبشرية أمرين اثنين؛ أنه أقرب إليهم من حبل الوريد، ما كان دينهم وعرقهم، وأنه مجازيهم ومحاسبهم بما قامت الحجة عليهم به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يكلفهم فوق ذلك قطميرا، والحجة تقوم بالفطرة وتقوم بالدين، ويُجَدُّ في البحث عنها وتحصيلها وفِي مشاركتها لمن وجدها مع الآخرين من غيره، وغايتها العمل الصالح في الأرض بعيدا عن الشرك والأهوية والمصالح، وتحت مظلة التوحيد والإيمان بيوم البعث.

إن في مشهد موسى والعبد الصالح والأفراد يومئذ إسقاطٌ ظاهرُ السطوع على كل زمان ومكان وحالة، بما فيه زماننا هذا، فالمنهج والدين المهيمن الإسلام، أما الأفراد فالفيصل فيهم الحجة القائمة على الواحد منهم، أين كان وما كان دينه، داخل المسلمين أم خارجهم، إن أقامها وأصلح، أو أضاعها هوىً وتبجح، وما يعلم تفصيل ذلك على مستوى الفرد وحجته عليه إلا الله، وإليه المرجع وعليه الحساب…”وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً”..

عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي