بناءُ جامع وإطعامُ جائع بين العاطفةِ والمنطق !!

0
1968

بقلم : عبدالله الراشدي – أبو وسام

على الأرضِ الطيبةِ، ومن منابعِ العطاء تتدفق التبرعاتُ والمساهماتُ الخيريةُ أنهاراً تجري على مواضعِ الجفاف والجفاء، لتصبَّ في بحرٍ من أمواج العواصفِ والعواطفِ الهائجةِ سعياً نحو تحقيقِ التكاتفِ الاجتماعي على الأرض ونيلِ الأجر في السماء.

ففي مواقف العطفِ و’الاستعطاف’ لا يتردد الكثيرُ منّا في تقديمِ ما تجود به نفسُه لمتسولٍ أو متسولةٍ وهي تحمل ابنَها في مشهدٍ تمثيلي أو حقيقي منها، وعند الاعلان عن حملةِ مساعداتٍ خيريةٍ لجهةٍ معينة خارجَ حدودِ البلادِ أو داخلَها يسارعُ الكثيرون بإخراج ما في الجيوب طمعاً في رضى علام الغيوب.

ولا يكاد البعضُ يمر بصندوقٍ لتجميع تبرعاتٍ أو مساهماتٍ لبناء مسجدٍ أو جامعٍ إلا وكان أسرعَ في الدفعِ حتى لا تعلم يسراهُ ما أنفقت يمناه …

بلا شك، إنَّ هذه المواقفَ الانسانيةَ والخيريةَ لها جوانبُ إيجابيةٌ كثيرةٌ سواءً على المستوى الفردي أو الاجتماعي، ومع ذلك هناك حاجةٌ إلى إعادة النظرِ إليها من زاويةٍ أخرى، من حيث تقنين آليةِ صرفِ تلك المساهمات والتبرعات على مستحقيها؛ فكم من متسوّلٍ متوسّلٍ يملك من الأموالِ ما يفوق أضعافَ من يعطيه، وبالمقابل هناك من تأبى نفسُه الوقوفَ ذليلاً أمام الآخرين لطلب العونِ والمساعدة، رغم وضوحِ ملامحِ فقرِه وعوزِه للعيان.

وكم من مسجدٍ ومصلىً بحاجةٍ إلى أبسطِ أنواع الصيانةِ من قفلٍ لباب دورةِ مياهٍ أو تغييرِ مصباح الإنارة، أو تغييرٍ لشطاف ماء، أو تعيينِ عامل نظافةٍ يحافظ بصورة دوريةٍ على المرافقِ الخاصةِ بالمسجد.
وفي الوقتِ ذاتِه نرى أحياناً المبالغةَ في تزيين مساجدَ وجوامعَ أخرى بالثرياتِ والزخارفِ والنقوشِ والأرضياتِ المكلفةِ وبمساحاتٍ شاسعةٍ لا يُستغل منها فعلياً إلا نسبةٌ بسيطةٌ من تلك المساحاتِ وفي مواسمَ وأوقاتٍ معروفة.

إنّ التوازنَ مطلوبٌ في كل شيء، خاصةً في الأمورِ التي تحتاج إلى تحكيمِ المنطقِ قبل العاطفة، فهناك حاجةٌ لدى بعض من يسَّر لهم المولى
عز وجل أمورَهم الماديةَ، إلى إعادةِ ترتيبِ أولوياتِهم بين العباداتِ القاصرةِ التي يعود نفعُها على المرءِ نفسِه كالصلاةِ والصيامِ والعمرةِ وبين العباداتِ المتعدِّيةِ التي يكون نفعُها له ولغيره كالزكاةِ والصدقات وغيرِها من مواضع الخير التي تطال الآخرين، فالبعضُ اعتاد السفرَ لأداءِ العمرةِ والاعتكافَ في المساجدِ بصورة شبه سنوية ولكنّه في الجانب الآخر قليلُ الانفاقِ في مواضعِ الخيرِ حتى لأقربِ المقربين إليه ولو جاءه طالباً سلفةً لسدِّ رمقِه أو تجاوزِ محنةٍ طارئة.

خلاصةُ القولِ، إنَّ المبادراتِ الخيريةَ والمساهماتِ الماليةَ، تؤتي ثمارَها بشكلٍ أفضل عند توحيدِ الجهودِ وتقنينِها وإعادةِ ترتيبِ أولوياتِ الصرفِ والإنفاقِ بما يحقق توازناً منطقياً ومعقولاً في جميع الجوانبِ الخاصةِ بالمجتمع، وصدق اللهُ جلَّ وعلا حيث يقولُ في محكمِ كتابِه العزيز :
“وأقيمُوا الصَّلاةَ وآتوا الزكاةَ، وأقرضُوا اللهَ قرضاً حسناً، وما تقدَّموا لأنفسِكُم من خيرٍ تجدوه عندَ الله هو خيراً وأعظمُ أجراً” (سورة المزمل : الآية 20 ).