الكركترز ” شخصيات من سينما الواقع

0
1629

من قبل ان نعرف فن التمثيل وخشبات المسرح والألبسة والهيئات التي يظهر بها الممثلون كانت ولا زالت تعيش بيننا وحولنا شخصيات غاية في الظرف والجنون والتطرف والحمق أو الدهاء والخبث والمكر والعبقرية وخفة الظل، شخصية هي مزج من شخصيات أو هي شخصية مستقلة من تلك الشخصيات المذكورة، والتفريق والظهور واضح فيها لدى العامة، ولا يختلف عليهم اثنان أنهم فعلا مختلفوا السمات والأوصاف والهيئات .

كما أنهم مختلفوا التصرفات و سرعة أو ضعف البديهة, أو الذكاء أو الحمق، أو منهم من يحمل النقيضين في آن معاً دون تعقل لدى من يلتقون بهم ويتعرضون لهم .
و لطالما شاهدنا الكثير من هذه الشخصيات التي تعيش أكثرها في الاسواق والحارات، أو التي تكون المجالس مرتع لهم، ومجال للأنس للكثير ممن تستهويهم مجالستهم لما يتمتعون به من حس فكاهي أو ظرف أو دعابة فائقة .

كما يتطرفون بأفكارهم المثلى والعليا وقيمهم الفضلى ، أو أنهم أكثر جرأة من غيرهم في طرح ما يجول في مخيلتهم وفكرهم سواء ما ينتج ذلك من فكر مريض أو عاقل فهم دائما يشكلون نقطة لافتة في حياة المجتمع الذين يعيشون فيه، و غيابهم يكون محل تساؤل و إستنكار إذا تواروا عن الانظار.
إنهم تلك الشخصيات التي تعبث بعقولنا وأفكارنا وتجعلنا نهيم في شخصياتهم، فكم من الناس تمنوا أن يكونوا مثلهم في تركيبتهم تلك ، ومن يحاول أن يكون منهم في الغالب لا سمجا متكلفا في خلق الظرافة أو ثقيل الدعابة او النكتة، فهم كأنهم خلقوا بشخصيات غير قابلة للتكرار أو التشابه مع أحد، فهم فريدون للغاية، حساسون أو مفرطون في الحساسية، بعضهم يحمل ذهنا متقدا وناقدا أو حاقدا و جاحداً قد يصل إلى حدود الكفر أو الزندقة، فبعض هذه الشخصيات لا يؤمن جانبها، فهي مزاجية سريعة التقلب أو التقرب أو التزلف أو المكابرة، ظرفاء أذكياء يتكلمون عدداً من اللغات رثّي الثياب و منهم مثقفين يحملون قراءة واعية و نظرة مستقبلية للحياة، يبصرون أبعد من المبصرين ويعون أبعد من معلميهم ، ولهم حكم قاس على المجتمع الذي يعيشون فيه، فالمجتمع يصنفهم أنهم مجانين فاقدي العقل ، ولكنهم يرون أن الحقيقة غير ذلك ، هم يرون أن المجتمع يعيش على الجنون و عدم إعطاء الأشياء مقاديرها و أحجامها و مكاييلها المناسبة, يتبعون في منطقهم حدساً شبه فلسفي، و يرون أنفسهم في القمة، و غيرهم أقزاما و كأنهم ينظرون لغيرهم من فوق جبل عال .
لقد تعايشنا كثيرا مع هذه الشخصيات و ألفناها في الأسواق، و مجالس أبائنا و أجدادنا، و في الأزقة والحارات فكانوا يشكلون مسرحية قبل أن تُعرف خشبة المسرح، و عرفنا الأدوار التي يتقنونها بكل عفوية و اقتدار، عرفنا مشيتهم و حركتهم التي كأنما دربهم عليها المخرج ليتقنوا الدور ، بل هم من يصنعون المشهد و الحدث و اللباس و المشية و الحركة . فكأني بمثل هؤلاء يعيشون الحياة الواقعية كمسرحية مثل تلك المسرحيات التي نشاهد شخوصها بادوارهم التي يتكلفون و يتدربون عليها أياما لجعلها متقبلة من المشاهد، بينما تظهر عفوية من تلك الشخصيات على خشبة مسرح الحياة الماثلة للعيان دون ألوان مصطنعة أو أدوار لا تكتمل إلا بتدريب و مران لا يفتر حتى يكونوا أقرب إلى الحقيقة و عرضها للمتفرج أمام خشبة المسرح.
نعم لقد تعايشنا معها ” حمالو أمتعة ، بائعو الأثواب و الخرز و الحلي، المحرومون و المنبذون، المهمشون العائشون في الظل و الشمس في آن، مغرمون بتتبع الأشياء”

لقد تعايشنا بالفعل معهم ، و الكثير منا يقول هل سنفقد مثل هذه الشخصيات في الأسواق و الحارات و المجالس ، ربما في عصرنا هذا، ولكن بطبيعة الحال لن نفقدهم لأنهم يتناسلون في المجتمع على أشكال و هيئات مختلفة، و منهم من يتصدر المشهد بكل ثقة، فبعضهم يمتلك القنوات ” اليوتيوبية ” و صفحات الفيس بوك “و الانستغرام وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعية الحديثة ، فيظهرون معلقين على الاحداث بطرافتهم وتطرفهم .

فهم لن يعدموا في المجتمع، ولما كان الناس يعيشون في حارات أو مجتمعات شبه صغيرة أو مغلقة، فإن مثل هذه الشخصيات ظاهرة أمام ذلك المجتمع، ولكن اليوم و ما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي كفيل بهذه ” الكركترات ” بأن تقول لنا ها نحن نعيش معكم و بينكم .
وقد سجل المجتمع الكثير من هذه الشخصيات في وسائل التواصل المجتمعي فمنها ما كانت له تأثيرات إيجابية على المجتمع برغم ما تحمله من السوء ، إلا انها ستظل شخصية فاعلة في نظر البعض؛ برغم ما يعرف عنها في غلوها وإسرافها في القول أو الفعل الذي لا يليق ولا يتقبله المجتمع إلا أن بعض تلك الشخصية تظل محبوبة وتتصدر المشهد والتداول و يطلب ما تنتجه بكثرة حتى من بعض المتحفظين، لأنهم مثار إعجاب، وذلك لما تتمتع به هذه الشخصية من طرح المأساة في قالب فكاهي يغلب عليه الظرف ، و كون من يحمل شبهة الجنون يقف بعيدا عن المساءلة القانونية أو من تنطبق عليه فئة ” من ليس عليهم حرج “.
كما لا زلنا نقرأ كتاب الجاحظ الشهير “أخبار الحمقى و المغفلين”

ستظل هذه الشخصيات بيننا، و قد برع قديماً و حديثاً عديد الكتاب و الشعراء في وصف هؤلاء و التندر بهم و وصفهم ، و بذلك رفعوا و علوا من مقامهم أكثر مما حطوا من قدرهم، وقد فعلوا ذلك سواء بقصد أو غير قصد فهم شخصيات أقامت الكثير من المواقف ولم تقعدها، ومنها من كانت له مواقف مشرفة يحسب لها ألف حساب. إنهم يحملون الكثير من القوة والتناقض والفكاهة، وبعضهم معتدون بالقول والفعل الفاحش. ويطلقون الأسماء والأوصاف العجيبة والغريبة على الناس، وغالبا ما تلتصق هذه المسميات او الكنى بأسماء الأشخاص المعنيين، و تظل تلك الأوصاف التي أطلقت على بعض الأشخاص ملازمة لهم طيلة حياتهم وقد تتعداهم إلى أولادهم بعد مماتهم .
هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن هذه الشخصيات التي تحمل الكثير من السمات يعجز الكثير عن امتلاكها؛ أو يحلمون أن يمتلكوا مثل ما لدى هذه الشخصيات التي لن تغيب في عصر ما قادم؛ بل تتجدد وفقا لمعطيات المكان و الزمان التي تعيش فيه و تتشكل وفق البيئات التي تحيط بها.
لقد عنى المسرحيون الكثير بمثل هذه الشخصيات، وكذلك عبر رساموا الكاريكاتير بالرسومات التي أبدعوها في رسومهم لخلق شخصيات مشابهة لهم و هم الذين يشكلون أثراً مجتمعيا لافتا للنظر و صورة حسية لا يمكن أن نحلم بفقدها يوما على مسرح الحياة .

بدر بن محفوظ القاسمي