حارة رأس الحصن

0
1702

قصة بقلم / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي

خيم المساء على حارة رأس الحصن فتدثرت الحارة تحت عباءته السوداء لتكتسي لون سوادها ، شق صوت المُأذن هدوء المساء ليعلن لأهل حارة رأس الحصن أن موعد صلاة المغرب قد حان .

شمر كل شاب وشيبه عن ساعديه وهم يغترفون الماء من الفلج يمسحون به وجوههم وجباههم وأيديهم وأرجلهم التي اغرقها الفلج طول فترة الوضوء وهن يسكن قعره ، فلج ابو بعره الذي يجري منبعه من جبة كسيس عند المنه ، هذه الجبة التي تحتضن وادي بواد بثورته العارمة ، الصمت في هذا المساء على غير عادته فهو يخيم على حارة رأس الحصن ، ما عدا طنين البعوض الذي يبث ألحانه المشروخة بحنجرته النشاز على مسامع أذان المصلين والعابرين طرقات وأزقة رأس الحصن .

فقد قرر البعوض كعادته أن يغزوا كل شيء بعد سبات طويل قضاه نائما طول النهار بين جنبات الأفلاج والبرك الراكدة ، كما تلحف أشجار الموز وسماد البقر في الضواحي وجلب النخل ، تخرج بعض النسوة من الضواحي محمله على رؤوسها بشلة طعام أو حلف لتعشي بها اغنامها ، كما تنزل من الجبال نهاية اليوم النساء بصحبة الأغنام وقد رفعاً على رؤوسهن وقر حطب لطبخ وإعداد مائدة هذا المساء للعشاء .

عدنا إلى بيتنا الطيني وقد أعدت النساء العشاء وأصبح جاهزا ينتظر أفواهنا ، الجميل في حارة رأس الحصن كان أهلها يتناولون العشاء مباشرة بعد صلاة المغرب ، بيتنا الكبير يسكنه أبي وعائلته وعمي سعيد وعائلته وعمي محمد وعائلته وعمي خلفان وعمتي نصرا ، هذا البيت كان رمزا شامخا لكل أهل قرية مقل وليس حارة رأس الحصن فقط ، فقد برهن وعلى أعوام عديدة على معنى الترابط الأسري الإجتماعي والأخوي بين أبناء سالم بن فريش السعدي ، بعد العشاء اخذ الرجال ينشرون على الدعون الشندروة ، وهي خيمة بيضاء تمنع دخول البعوض وتسمح بدخول كمية كبيرة من الهواء العليل في موسم القيض ، هكذا تجتمع الخيام بالقرب من بعضها البعض في بيتا واحد ، كل فردا منا رمى بفراشه داخل الخيمة حتى يتهيئ بعد صلاة العشاء لسماع الحكايات قبل النوم .

نجتمع في وسط البيت وتحديدا بالقرب من غرفة عمي سعيد وخلفان كل ليلة لسماع الحكايات الجميلة المفزعة أحيانا أخرى التي كان عمي خلفان يحكيها لنا ، عمي خلفان امتاز وتميز بمقدرته الفائقة على سرد الحكاية ، فهو يستطيع أن يجعلك تعيش الحكاية وكأنك أحد شخصياتها ، فتشعر بروعة الحكاية ، عندما يحكي عمي خلفان يسود الصمت المكان إلا صوته الجميل الذي يسكن أذاننا كما سكن أذهاننا ، ما عاد تلك الأيادي التي تتخبط على الأجساد بعد لسعة كل بعوضة ، بعد برهة دخل على صوت الحكاية صوت القعاشة ، فتعوذ وسمى الجميع فهي في نظر ومفهوم أهل رأس الحصن تجلب الشر أو الحزن ، أكمل عمي خلفان الحكاية بعبارته التي أمست لزمة نهاية كل حكاية يحكيها لنا ..

شيء انطر وشيء انصر والباقي فديت به رأس بو يسمع الخبر ، وقد حان موعد الخلود إلى النوم ، دخل الجميع داخل الشندروة وساد المكان صمت مدقع ، إلا البعوض ومسيهروا الليل هما الحشرتين الوحيدتين الآتي يكسرن صمت الليل ، أطفئ أبي القنديل على وتد الشندروة فتحدنا مع الظلام ، لقد نام الجميع بعد ما هبت ريح هادئة أرسلت إلى أنفي رائحة طلع النخيل ، إختفى صوت البعوض نهائيا ولم أعد أسمع شيئا ، حاولت أن أنام كغيري لكن رأسي لا يستجيب لنداء الجسد المرهق ، وإذا بصوت بكاء ونشيج عالي يأتي من السكة التي أمام بيتنا الكبير ، وهناك صوت ثاني ينهر وبقوة الباكي ويقول له ( مشي قدامي ياسويد الوجة .. تحط رأسك براسي )

كما سمعت صوت ضرب العصى على ظهر الرجل الذي يبكي ، لقد أصبحت أميز صوت العصى بيقاعها على كل أجزاء الجسم ، نعم فقد ذقت طعمها كثيرا بسبب شقاوتي وعنادي ، تسمر جسدي من الخوف ، حاولت أن أيقظ أبي من نومه لكن كل أوصالي ومفاصلي تجمدت عن بكرة أبيها ، حتى شعر رأسي النائم أمسى وأقفا مستيقظا هو الأخر وكأن تيار الكهرباء سرى فيه ، لقد أستمر الرجل يضرب الأخر ويتوعده بينما أستمر الأخر في البكاء وطلب الصفح ، شيئا فشيئ بدأ على مسامعي يقل سماع صوتهما كما بدأت رجلي ويدي في التحرر من قيود الخوف والرعب الذي سكنني ، وكأن حكايات عمي خلفان أصبحت حقيقة وليست خيال قاص لحكاية عفوية .

ذهبت نحو أبي أريد أن ألمسه بيدي حتى أيقظه وإذا به ينطق بصوت بسيط وهادئ ، سير نام ورتاح مالك ومال بوتسمعه .. سير نام لا تخاف .. يوم أنا هنا لا هو ولا السفل بو معاه يقدروا يقربوا صوب هذه البيت وأهله ، فهمت كل ما يعنيه أبي ، لكني أعرف أنه يطمئنني بهذه الكلمات حتى أستطيع أن أنام ، فأنا أعرف أن أبي لا يعرف ولا يقدر على فعل شيء من ما ذكر ، فقد سبق وتم سحره لولا أحدا من الخيرين قام بأرجاعة ، وقصة أبي وفصولها السوداء كل العائلة تعرفها .

سحبت فراشي ووسادتي وفرشته خلف ظهر أبي وحاولت ان أستسلم للنوم دون جدوى ، لكنني أضن إنني نمت والله أعلم ، فقد جاء رجل وأخذني من فراشي وهو يمسك بيدي وأخرجني من البيت إلى نفس الطريق الذي مر به الرجلين قبل دقائق ، كلما حاولت رفع رأسي للنظر إليه عجزت أن فعل ذلك ، وكأنه تم تجبيس رقبتي فلم تعد تتحرك كما أشاء أن أحركها ، أجتاز بي المقبرة التي أعلى ضاحيتنا ، وهي مقبرة مفتوحة دون سور تستطيع أن تحصي كل المقابر وأن تمر بالسكة التي تقسمها نصفين ، أحسست لوهله إنني سوف أتبول على نفسي من شدة الخوف ، رغم أن داخلي هاجس يطمئنني ويبشرني بخير ، أدخلني الرجل في ممر شرجة صغيرة أعلى بيوت الحارة وهناك أزاح حجر كبير لا يستطيع تحريكة أقل من ثلاث رجال على الأقل ثم قال لي وهو يشير بأصبعه أصفل الحجر

( شوف هذا الخرس حالك .. فيه قروش وذهب مخلف أجدادك .. بكرة الصباح تعال هنا وحرك الحصاه هذه .. لكن قبل لا تشل الخرس بول فوقه ولا ذر عليه ملح .. لا تنسى .. وإذا خبرت حد من أهلك ولا ربعك تراك ما بتحصل فيه اللي شفته تو ) ، حاولت وأومأت برأسي حتى يفرج عني وعن قبضة يدي التي أصبحت أدرك إنني لم أعد أحس بأطراف أصابعي من شدة القبضة ، أرجع الحجارة إلى مكانها وأرجعني إلى البيت خلف أبي في فراشي الذي أخذني منه ، أستيقظت الصباح وأنا خائف ومتردد هل كنت أحلم أم هي حقيقة ، خفت أن أخبر أبي فأفقد القروش والذهب .

كما إني لا أتجراء أن أمشي إلى تلك الشرجة وأبحث تحت الحجارة الكبيرة التي لا يحركها سوى ثلاثة أشخاص على أقل تقدير ، ذهبت إلى عمتي نصرا وأخبرتها عن كل شيء ، ضحكت وقالت عبارتها الجميلة وهي تضحك ( ولدي أنته طمه ) ، فقلت لها ببراءة الطفولة ( حالموه طمه .. موه سويت ) فردت وهي تتابع الضحك ( الرجال ما قالك لا تخبر حد .. حالموه خبرتني .. بعدك تبا أكثر من كذا طمه )

سير تو عاد وخبر أبوك وخله يسير معاك ما بظنتي تحصل غير مسيله ولا سماد في الخرس ، أخبرت أبي وذهب معي وهو يقول ( ياولدي مرة ثانية لا تخبر حد البر يوم يستوي معاك كذا .. هذا يسمى مورق .. يجي بأرزاق بأمر من الله سبحانه وتعالى ) .

وصلنا للصخرة وحاولنا أزاحتها لكن لم نستطيع أبدا ثم نادى أبي على أسم رجل كانت ضاحيته أسفل الشرجة ، كانت الجبال تتلقف صدى الصوت لترسله بعيدا ، فأجاب الرجل وطلب أبي منه أن يأتي إلى فوق الشرجة ، جاء الرجل وأزحنا الصخرة وإذا فعلا بالخرس موجود كما كان بالأمس ، سرت في جسدي رعشة وخوف ، وقلت في نفسي ( بو شفته أمس ما حلم حقيقة )

قال أبي بول فوقه ، فقلت له (حتى الرجال قال كذا ) ، بلت فقوق الخرس ، لكن عندما فتحناه وجدنا داخله مجموعة من أصداف البحر وشعب المرجان ، لما أن ولاية وادي بني خالد لم يكن فيها يوما بحر أبدأ ، ضحك أبي وضحك الرجل وبدأت أنا بالبكاء على خيبتي ، زعلت كثيرا وطلبت من أبي أن يرجعني إلى مسكد ، خوفا من أن يتكرر أمر الرجل أو أمر الرجلين .

فقد أصبح بنسبة لي جو حارة رأس الحصن يرسل الكآبة إلى داخلي ، جاء الليل وحان وقت الحكايات ، فأرسل عمي خلفان هذه المرة خيالي إلى أبعد من سطح الأرض ، نعم أرسله مع الجن ، فلعبت دور البطل خوي الجواري ، وما أستيقظت من نومي إلا في الصباح تحت الشندروة