وادي الجن

0
4571

وصلت أخبار على مسامع المخرج الوثائقي محمود أبو دحبه ، بأن مجموعة من الشباب أختفوا في ظروف غامضة أثناء زيارتهم لأحد الأودية السياحية ، وقد أستمرت الشرطة بالتحقيقات الجنائية وأخرين مدة أربعة عشرة يوما البحث عنهم بكل الوادي وما يحيط به من تضاريس ومكونات صخرية ، لكن البحث لم يثمر عن نتائج إيجابية يستطيع الفريق أن يؤكد إنهم ما زالوا بالمكان ، إلا بقايا من ما تركوه من معدات رحلتهم ، وأصوات صريخهم وطلب نجدتهم التي تستمر طول النهار والليل يتردد صداها بين ضفاف الوادي على سفوح الجبال .

قرر المخرج الوثائقي محمود أبو دحبه أن يزور المكان بصحبة كاميرته ويسجل تلك الوقائع ويقوم بالحبث الخاص به ، حدسه يقول أنه ربما قدم دليل ملموس للسلطات في كشف بعض معالم هذا اللغز المحير .
سيارة الدفع الرباعي التي يقودها أبو دحبه تشق الطريق الجبلي المؤدي إلى وادي الجن وفي صحبته أثنين من زملاءه ، خليفه فني الصوت والإضاءة وحمدون المصور ، كثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات مقنعه عن سر هذا الإختفاء الغير منطقي ولا مبرر له ، فقبل إن يشرع أبو دحبه في بدأ هذا المشروع أستفتى أحد رجال الدين الذين أكدوا له بشكل مطلق وبدون جدل ، عدم إمكانية دخول جسم الجان في جسم الإنسان لكثير من الأختلافات في الخلق والخصائص ، ولكن يمكن أن يسيطر الجن على الأنس في أشياء أخرى مادية ، وهذا ما جعل أبو دحبه يتحدى ذاته في خوض غمار هذا اللغز ، مقدار الخوف الذي يسكنه يعادل نفس مقدار الفضول الذي يعتريه في سبر غوار هذا الوادي والجن تحديدا ، فكل ما يسمعه وما يقرأه منذ ما كان صغيرا عن هذا العالم الخفي الغيبي ، يشده الآن على أكتشافه ولو كلفه ذلك حياته .
وصلوا إلى الوادي الذي خيم فيه الشباب المفقودين ، وقد كان رجال الشرطة قد توقفوا عن البحث بعد أن أستفتوا المشايخ رجال الدين عن هذه الظاهرة الغريبة ، فالشباب حسب الأصوات هم أحياء يرزقون رغم مرور الوقت الطويل على إختفاءهم لكنهم غير مرئيين لغيرهم من جنسم ، فأمروا المشايخ أن يصلى في المكان صلاة الغائب ويقيموا لهم العزاء لتختفي الأصوات من المكان للأبد ، لكن الأصوات رغم ذلك ما زالت تعلوا ليل نهار ، ترجل المخرج محمود ابو دحبه وزملاءه خليفه وحمدون بالمكان فقابلتهم تلك الأصوات التي تستغيث وكأنها تعذب ، ثم تسمع بكاء بعضها أحيانا ، الموقف كان مهيب ويبعث الى الرهبة والرعشة وسريان القشعريرة في الجسد ، نظر حمدون إلى أبو دحبه وكأنه يقول له أريد أن أرجع أدراجي إلى حيث أتيت ، لم يتوقعوا أن يكون ما تداول عن أمر الشباب المفقودين بهذه الحقيقة التي تتجللا أمام أعينهم ومسامعهم في وادي الجن .

حملوا حقائبهم وكاميراتهم ومعداتهم وساروا في الوادي تتلقفهم الأصوات من كل حدبا وصوب ، شاقين الوادي في حذر وخوف شديدين ، كان أبو دحبه يبحث عن كهف يطل على وادي الجن مباشرة ، وهذا كان تفاقه مع طاقمه حمدون وخليفه ، فهو يظن أن الأصوات التي تأتي للوادي مصدرها من داخل هذه الجبال ، فما يصل إلى الوادي ما هو إلا صدى للأشخاص الذي يسكنون داخل صخور هذه الجبال العاتية ، وصلوا قرب فوهة الكهف في الجانب الأيمن من الجبل ، وهنا كانت الأصوات فعلا تعلوا أكثر من السابق وكأنها حولك تماما ، أشعلوا مصابيحهم التي أعتلت رأسهم وكأنها خوذة دراج ، ثم أشعلوا مصابيح التصوير الإيدي لايت ، فقام حمدون بإدارة كاميرته في أهبة الإستعداد لصيد وتسجيل كل حركة ، لقد نظر أبو دحبه إلى خليفه ثم نظر إلى حمدون وراء أياديهم تهتز ، فذكرهم أن يقرئون سورة الجن في ضمائرهم أو بصوت خافت ، وهكذا فعلوا وهم يسيرون للداخل أكثر فأكثر ، نظر خليفه إلى مدخل فتحت الكهف بعد برهه فشاهد الظلام خلفه يدثر ممر مدخل الكهف ليغرق في سبات كوابيس الجن ، فأيقن لو لا الإضاءة التي بحوزتهم لكانوا متحدين مع الظلام وربما أختطفهم الجن كما أختطفوا الشباب قبلهم ، هذه الأفكار السوداوية التي يتلاعب بها ذهن خليفه عليه قد تغرقه في قاع هذا الكهف دون رجعة ، فأخذ يبصق على يساره وهو يتعوذ من الشيطان ويسمي بالرحمان ، فأصطدم رأسه بالجبل الذي على أثره سال دمه على الفور ، لكنه لم يبلغ المخرج أبو دحبه ولا حمدون بذلك .
وصلوا إلى مكان فسيح بالكهف وشاهدوا علامات تخطيط وكتابات باللون الفسفوري قد خطوها رجال الشرطة أثناء البحث في الكهف ترشدهم إلى كل الإتجاهات ، أصوات الشباب تعلوا أكثر من السابق وكأنهم يقفون بالقرب منهم ، لكنها تختلط مع أصوات شلالات الماء التي تأتي من الداخل ، وضع حمدون كاميرته حسب تعليمات أبو دحبه في الوسط وقام بتصوير كل شيء يحيط بالمكان ، لقد أمسك أبو دحبه بجهاز الشاشة الخارجي ( المنتور ) .

وقد روعه هول ما يظهر في الصورة هو ورفيقة ، ما يراه هم بالواقع غير الذي ترصده الكاميرا ، فيظهر الشباب في الكاميرا معلقين بسلاسل من حديد على زوايا ممرات الكهف والجان يظهرون في الصورة بلون أبيض شفاف تغيب أو تختفي فيه معالم أشكالهم وأجسادهم ، الضبابية هي الصورة الظاهرة والتي تدل على وجودهم ، نعم إنهم يحيطون بهم جميعا ، فمنهم من أقترب من المصور حمدون يدور حوله ويشاهد الكاميرا من الأمام ، هنا تسمر الجميع وكأن أقدامهم ضربت بمسامير على الأرض التي يقفون عليها ، لم يبقى يتحرك بهم سوى النفس المتسارع الحار الذي يخرج من رئتين يضخ فيهما القلب الدماء بقوة ، أخرج أبو دحبه من جيب سرولة مسجله صغيرة وضغط على أحد أزرارها فكان صوت القارئ الشاب هزاع البلوشي يأتي من المسجلة مرتل سورة البقرة بصوته الشجي الجميل الذي يدعوا من يسمعه إلى الإنصات والسكون ، هنا أخذ يتراجع الجني الذي أمام الكاميرا إلى الخلف قليلا ثم ما لبث أن رحل ، كما رحل بعد فترة لا بأس بها باقي الجان ، وهنا هدء الشباب وضلوا ينصتون إلى القرآن وهم ينظرون إلى أبو دحبه وزملاءه ، لكن الأمر معقد جدا فلا يعرف أبو دحبه وزملاءه خليفه وحمدون كيف يستطيعون تخليص الشباب من القيود القوية وهم لا يشاهدونهم في الواقع فقط من خلال الكاميرا ، قرر أبو دحبه الإتصال بشرطة وإعلامهم بما توصلوا إليه وما يشاهدونه أمامهم ، لكن الشبكة قد خاصمت الهاتف وطلقته بالثلاثة ، أقترب ابو دحبه من أحد الشباب وأمر حمدون وخليفه أن يسجلوا كل شيء على أن يتحدث مع أحدهم أو يحاول لمس المكان الذي ربط به ، وصل المخرج أبو دحبه إلى قرب أحد الشباب وحاول أن يذرع يداه في كل إتجاه حسب ما تشير الكاميرا على وجودة لكنه لم يحس به مع أن الشاب في الكاميرا يشاهد أبو دحبه ويتحدث معه لكن صوته في الحديث غير مسموع فقط صراخه هو الذي يسمع ، تعجب الجميع من هذا الأمر ، وأصبحت المهمة في تخليص الشباب من اسر الجان أكثر صعوبة وتعقيدا .
نادى أبو دحبه بصوت مبحوح خائف على الجن يطلب منهم أن يتحدث إلى أميرهم ، فذعر حمدون وخليفه وحاولوا أن يوقفوه بسد فمه بأيديهم من الخوف ، لكنه هدا وأقنعهم أنهم في رصد موضوع قوي وفيلم وثائقي لم يحدث من قبل مع أي مخرج وأي طاقم في أي مكان بالعالم ، وهذا ما سوف يدخلهم عالم الشهرة ويصبحون مشهورين ومطلوبين في كل مكان ومحفل ، إقتنع كلا من حمدون وخليفه بسماع المخرج أبو دحبه وهو يمنيهم بهذا النجاح الفريد ومنقطع النظير ، فرجع أبو دحبه إلى مناداة الجن لكن دون جدوى ، فضغط على زر المسجلة وأوقف دورانها ، وما هي لحظات حتى حضر جميع الجن ، لكن هذه المرة ليست مثل سابقتها ، وكأن عالم الجان حضروا كلهم وأعينهم الحمراء تضيء كقبس من نار مشتعل ، تحدث أبو دحبه طالب لقاء أميرهم وأحبال صوته لا تساعده على التماسك ، فحضر عملاق الجن ذو القرنين العملاقين والكتفين العريضين وشفايفه المتدليه حتى منصف صدره وعيناه البارزتين بقوة للخارج تعدت حواجبه كثيفه الشعر وأضافر رجليه التي كالسيف المسلول من غمده والرمح الطويل الحاد ، ولكن هذه المرة يظهر أمامهم وليس في كاميراتهم ، فسقط خليفه مغشيا عليه بينما بال حمدون على نفسه ، وبقى أبو دحبه يحاول أن ينطق حرف من كلمه لكنه لم يستطيع حتى تحريك فكه قبل لسانه ليخرج صوته ، وظل على هذا الحال بينما أمير الجن يطلب منه الحديث لكن دون جدوى ، فأشار أبو دحبه بيده وهو يرفعها بكل صعوبه ويمررها نحو مكان وجود الشباب وهي تهتز كالسيف العازي .

فهم أمير الجن ما يريد وقال له في صوت خشن أيقض الحجر من منامه .. هم أسرى عندي للأبد .. فقد دخلوا مملكتي دون أذن وجالوا وصالوا دون أدب .. فأوقدوا النار وغنوا ورقصوا وتصايحوا طول الليل .. وذلك أزعج جماعتي من سكان الوادي .. ولم يستطع أبنائهم وبناتهم النوم بسبب ما فعلوا .. لذا وجب عقابهم ، هنا أستطاع أبو دحبه أن يتغلب على الرعب الذي يسكنه ونطق بكلمات فقال .. هم يجهلون بأن المكان فيه سكان أنتم نازلوه .. ولو كانوا علموا ذلك لما فعلوا بكم ما فعلوه .. فأبنك إذا أخطأ تعاقبه بالمعقول .. وأنا وأخوتي جئناك راجيين منك أن تفرج سجنهم وترجعهم إلى أهلهم سالمين .. بلا شك أنت أب ولك أبناء ولهم أم .. فكيف حالك إذا كنت ما كان أمهاتهم وأباءهم ، هز أمير الجن رأسه بغضب وكأن كلام المخرج أبو دحبه لم يعجبه ، فنفخ فيه وفي طاقمه ومعداته فصتدم هو ومن معه بصخور الكهف وسقطوا مغشيا عليهم ، لكن الكاميرا والإضاءة ضلت تعمل كلا حسب المكان الذي سقط فيه ، كما أن الكاميرا كانت توثق كل شيء يحدث أثناء غيبوبتهم ، فرأها أحد أبناء الجن الصغار وأخذ يقلبها في يده وما إن راءه أمير الجن حتى نظر إليه بنظرة فأسقطها من يده على الفور في رمله الكهف .
أستيقظ خليفه قبل الجميع فأيقظ المخرج والمصور ثم نظر حوله فرى الشباب مرميين على جنبات الكهف ، فأخذوا يتفحصون الشباب وإذا بهم يستقظون مذعورين خائفين يحضنون الجميع من الفرح ، خرج الجميع من الكهف في هدوء تام حسب ما طلب منهم أبو دحبه غير قادرين على المسير من هول ما لم بهم ، إستقل أبو دحبه سيارته وأخذ الجميع معه وهم ملتصقين بعضهم ببعض في السيارة ، فأخذ أبو دحبه يراجع الكاميرا والتصوير الأخير ليتأكد بعد سقوهم هل الكاميرا كانت تعمل فعجب من ما راء ، تلك النفخة التي نفخها أمير الجن أسقطت كل الشيء حتى قيود الشباب وما أن سقطوا وجاء الفوج الغفير من الجن ما دين أيديهم نحوهم ليمسكوا بهم إذا بالمسجلة تدور ويصدح صوت القارئ الشيخ هزاع البلوشي فيهرب الجن من المكان بما فيهم الأمير ، ويبدأ الشباب يتخذون معلم أخر في الظهور على شاشة الكاميرا الأمر الذي يأكد بأنهم أصبحوا مرئيين للجميع ، لقد أنقذ كتاب الله الجميع .
رجع المخرج محمود أبو دحبه إلى بيته وبدأ في التجهيز لعرض الفيلم بالصالات الكبرى في البلد ، وكان قبل ذلك بأشهر كثف إعلاناته ودعاياته في كل منبر من هذه المنابر المسموعة والمقروءة والمرئية ، فأخذ الفيلم الضجة الإعلامية الكبيرة التي لم يسبق لها وحصلت سابقا بهذا المستوى ، في يوم العرض المنتظر وقبل ساعات من وقت العرض حضر الشباب أبطال القصة لمشاهدة الفيلم بدعوة من المخرج أبو دحبه ، وأنتظر الجميع في الصالة بدأ عرض الفيلم ، لكن أبو دحبه لم يحضر وتأخر كثيرا ، وعند إدارة الشريط في صالة العرض ظهر في الفيلم أبو دحبه وهو يصرخ في نفس الكهف مربوط السلاسل وأمير الجن يخرج من الشاشة إلى الواقع بالصالة فيركض الجميع مرعوبا بما فيهم أبطال القصة إلى خارج الصالة .
أظلمت صالة السينما وبقت خاليه من الجميع وظل الفيلم يعمل والمخرج محمود ابو دحبه يعذب من قبل أمير الجن بسياط من نار وهو يصرخ ، وظلت قاعة السينما مقفولة سنين طويلة لم يجرؤ أحدا إلى دخولها ، الفيلم مستمر والمخرج يعذب .

#قصة_قصيرة

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي