جَامِعَةٌ أُكْسفُورد

0
1539

فَتَحْتُ بَابَ التَّكْسِيِ وَمَدَدْتُ رِجْلَي اليُسْرَى لِتَتَلَقَّفَهَا أَرْضِيَّةٌ جَامِعَةٌ أُكْسفُوردفِي انجلترا ، نَعَمْ أَرْدَفَتْ قَدَمِي اليُمْنَى حَتَّى اِسْتَعَدَّ لِرَمْيِ جَسَدِي المُلْتَصِقِ بِمَقْعَدِ التَّكْسِيِ الخَلْفِيِّ إِلَى الخَارِجِ

وَأَنَا أَنْظُرُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عَلَى مَبْنَى جَامِعَةِ أُكْسفُورد يُخَالِجُنِي شُعُورٌ بِالفَرْحَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي آنٍ وَاحِدٌ ، الفَرْحَةُ مِنْ الوُصُولِ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ العَنَاءُ وَالنَّجَاحَاتُ إِلَى تَحْقِيقِ الحُلْمِ الَّذِي عَايشتهُ مَعَ أَبِي طُولَ مُدَّةِ مَعِيشَتَيْ فِي فَلَّتَهُ الَّتِي تَشْبَهُ أَحَدَ القُصُورُ العَرَبِيَّةُ فِي العَصْرِ العَبَّاسِيُّ ، أَمَّا الرَّهْبَةُ فَكَانَت تَعْتَرِينِي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ تَمَّ قُبُولِي لِلاِلْتِحَاقِ بِهَذِهِ الجَامِعَةِ ، كُلُّ شَيْءٍ هُنَا سَوْفَ يَكُونُ مُتَغَيِّرَا بِرُمَّتِهُ ، فَكُنْتُ فِي بَلَدَيْ العَرَبِي أُدَرِّسُ مَعَ مَجْمُوعَةٍ مِنْ جِنْسِي وَأُصُولِي ، أَمَّا هُنَا سَوْفَ يَكُونُ الوَضْعُ بِلَا شَكٍّ مُخْتَلِفٌ تَمَامًا ، وَرُبَّمَا سَوْفَ أُوَاجِهُ مَصَاعِبَ عَدَمٍ تَقْبَلِي بَيْنَهِمْ ، خَاصَّةٌ الآنَ وَفِي الوَقْتِ الحَاضِرِ مَعَ المَوْجَةِ الَّتِي سَادَتْ فِي المُجْتَمَعَاتُ الغُيُرُ عَرَبِيَّةٌ بِأَنَّ العَرَبِيُّ إِرْهَابِيٌّ وَمُخِيفٌ ، وَصَدَاقَتُهُ أَصْبَحَتْ تَحْتَ خَطَّيْنِ أَحْمَرَيْنِ ، تَقَدَّمَتْ نَحْوَ مِيْدَان الجَامِعَةِ الفَسِيحَ إِلَى البَوَّابَةِ الدَّاخِلِيَّةُ وَأَنَا أَحْمِلُ عَلَى كَتِفِي الأَيْسَرُ حَقِيبَةٍ وَضَعَتْ بِهَا بَعْضُ مِنْ لَوَازِمِي الَّتِي اِحْتَاجَ إِلَيْهَا فِي قَضَاءٍ يَوْمِيٌّ الدِّرَاسِيُّ بِأُكْسفُورد .

دُخُولِي لِقَاعَةِ المُحَاضَرَاتِ العِمْلَاقَةِ ذَاتِ المُدَرَّجَاتِ المُتَّسِعَةَ كَانَ بِمَثَابَةِ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٌ مِنْ سَلَاطِينَ العَرَبَ فِي الهَيْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، وَزَّعْتُ نَظَرِي فِي كُلِّ رَكْنٍ مِنْهَا كَمَا صَافَحْتُ عَيْنَيْ بَعْضٍ مِنْ أَعْيَنِ زُمَلَائِي وَهُمْ عَلَى مَقَاعِدِهِمْ وَأَنَا أَسِيرٌ خَلْفَ سَيِّدة أَحَدُ أَعْضَاءِ إِدَارَةِ الجَامِعَةِ ، عَرَّفْتِنِي عَلَى المَحَاضِرِ ثُمَّ طَلَبْتِ مِنِّي اِخْتِيَارَ مَقْعَدِي ، مَرَرْتُ بِالوَسَطِ بَيْنَ الطُّلَّابِ اِبْحَثْ عَنْ مَقْعَدٍ يُنَاسِبُنِي رَغْمَ أَنَّ كُلَّ المَقَاعِدِ مُتَشَابِهَةٌ ، الفَارِقُ الوَحِيدُ أَنَّ الأَوْجُهَ وختلفه ، وَأَخِيرًا وَقَّعَ اِخْتِيَارِي عَلَى مُقْعَدٌ بِالقُرْبِ مِنْ شَابَّةِ حَسْنَاءَ ذَاتَ قَوَامٍ رَفِيعٍ مَمْشُوقٍ تَعْرِفَتِ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ اِسْمُهَا ستالني ، لَكِنَّهَا تَكْرَهُ العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ بِشِدَّةٍ ، وَقَالَتْ لِي مُعَرِّبُهِ عَنْ مَشَاعِرِهَا بِكُلِّ صِدْقٍ وَبِغَضَبٍ جَامِحٌ (أَنْتُمْ أَشْرَارٌ فِي الأَرْضِ) ، ضِحْكَتُ يَوْمُهَا كَثِيرًا ، فبتعدت عَنِّي وَقَطَّعَتْ المُحَادَثَةَ وَهِيَ تُسَيِّرُ مُسْرِعَةً نَحْوَ فَنَاءِ الجَامِعَةِ الخَارِجِيُّ لِتَنْزَوِيَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ظَلَّتْ تَنْظُرُ نَحْوِي وَهِيَ مكفهرة , كَمَا تَابَعَتْ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَأَنَا مُبْتَسِمٌ ، فَوَقَفَتْ بمَكَانِهَا وَجَاءَتْ إِلَى وقتربت مِنِّي كَثِيرًا حَتَّى أَحْسَسْتُ بِحَرَارَةِ جَسَدِهَا وَهِيَ تَهْمِسُ فِي أُذْنَيْ اِبْتِسَامَتِكِ مُخِيفَةٌ ، ثُمَّ غَادَرْتِنِي إِلَى الدَاخِلِ ، لَقَدْ كُنْتُ مُسْتَعِدًّا مُنْذُ مَعْرِفَتِي بِقُبُولِي هنام لِلدِّرَاسَةِ عَلَى مُوَاجَهَةٍ مِثْلَ هَذِهِ المَوَاقِفُ الَّتِي كُنْتُ أَنْتَظِرُهَا فِعْلِيًّا أَنْ تَحَدَّثَ مَعَي ، فَلَمْ أَكَنَّ منصدم مِنْ حُدُوثِهَا ، لَكِنَّي كُنْتُ أَيْضًا عَلَى اِسْتِعْدَادٍ لِتَغْيِيرِ هَذِهِ المَفَاهِيمِ السَّائِدَةِ مَعَهُمْ وَفِي عُقُولِهِمْ وَحَيَاتُهِمْ عَنْ العَرَبِ المُسْلِمِينَ .

كَانَ أَكْثَرَ تركيزي عَلَى الدِّرَاسَةِ مِنْ غَيْرِهُا ، فَانجلترا كُلُّ شَيْءٍ بِهَا جَمِيلٌ وَيَبْعَثُ فِي النَّفْسِ الرَّاحَةَ وَالمُتْعَةَ ، إِلَّا إنا أهماماتي الأُخْرَى أَجَّلَتْهَا وَخَاصَّةً فِي الأَشْهُرِ الأُولَى حَتَّى أَثْبَتَ لِمِنْ حَوْلِيَّ مَنْ الطُّلَّابُ إِمْكَانِيَّتُي وَتَفَوُّقِي ، كَمَا حَاوَلَتْ جَاهَدَا الاِبْتِعَادَ عَنْ الصِّدَامَاتِ وَالتَّشَابُكَ مَعَ العَابِثِينَ ، وَبَعْدَ مُضِيٍّ أَشْهِرِي الثَّلَاثَ الأُولَى أَحَسَّ بِمِنْ حَوْلِيَّ بِالاِرْتِيَاحِ لِمُعَامَلَتِي لِهُمْ ، فَسَأَلَنِي أَحَدُهُمْ هَلْ أَنَا أَكْرَهُهُ أَوْ أَكْرَهُ جنسة أو بلاده , فَقَلِّت لَهُ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي يَجْعَلُنِي أَفْعَلُ ذَلِكَ .. هَلْ أَنْتِ تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ هَذِا ؟ ، فَرْدٌ نَافِيَا وَهُوَ يَهُزُّ رَأْسَهُ ، فَقُلْتَ لَهُ إِذَا نَحْنُ مُتَّفِقِينَ وَلَسْنَا عَلَى خِلَافٍ ، وَهَكَذَا أَصْبَحَ صَدِيقِي المُقَرَّبُ ، مَرَّةٌ سَمِعَتْ ستالني وَهِيَ فِي المُحَاضَرَةِ تَهْمِسُ لِصَدِيقَتِهَا بِأَنَّهَا مُتَعَثِّرَةٌ فِي أَحَدِ المَوَادِّ وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِلَ إِلَى مَفْهُومِ قُبُولِ فِكْرَةِ الطَّرْحِ بِهَذِهِ المَادَّةِ ، وَكَمَا قَالَتْ إِنَّهَا تَكْرَهُ الفَلْسَفَةَ نَوْعًا مَا ، وَبَعْدَ المُحَاضَرَةِ عَرَضَتْ عَلَيْهَا المُسَاعَدَةُ , لَكِنَّهَا رَفَضَتْ فِي البِدَايَةِ ، ثُمَّ قَلَتْ لَهَا إِلِيس لَدَيْكِ فُضُولٌ لِتَعْرِفي شَيْءٍ وَلَوْ بِاليسيرِ عَنْ العَرَبِ المُسْلِمِينَ وَكَيْفَ هِيَ حَقِيقَتُهِمْ مِنْ غَيْرِ اِسْتِنْتَاجَاتك الإرتجاليه أَوْ خَلْفِيَّةُ مَنْقُولِهِ عَبْرَ الأَلْسُنِ بِتَأْوِيلٍ أخرين ، وَكَانَ الفُضُولُ عَلَى دُخُولِ عَالَمٍ العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ تَحْدِيدًا اِسْتَهْوَاهَا ، وَافَقَتْ عَلَى أَنَّ لَا أَقْتَرِبُ مِنْهَا أَوْ اُلْمُسْ حَتَّى يَدَهَا أَثْنَاءَ مُحَادَثَتِي لَهَا أَوْ شَرِّحِي لِلمَادَّةِ ، وَافَقْتَ عَلَى كُلٍّ مَا طَلَبْتَ مِنِّي مَعَ إِنَّنِي لَنْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْسَى أَبَدًا دِفْءَ حَرَارَةِ جَسَدِهَا الَّتِي سَرَتْ فِي جَسَدِي لِتُوقِظَ كُلَّ شَعْرِهِ بِهِ مِنْ نَوْمِهَا.
لَنْ تَفْهَمُ ستالني الآنَ بَعْدَ إِنَّ لَمْسَ الأَجْنَبِيَّةِ فِي الأسلام حَرَامٌ ، فَكَيْفَ لِي أَنْ ألمس يَدَهَا ، وَمَرَّتْ الأَيَّامُ وَأَنَا أَشْرَحُ لَهَا المَادَّةَ ، وَلَيْسَ هَذَا وَحَسَبَ بَلْ أَخَذَتْ هِيَ تَتَحَجَّجُ بِعَدَمِ الفَهْمِ حَتَّى تَقْتَرِبُ مِنِّي أَكْثَرَ , لَيْسَ حُبًّا إِنَّمَا كَمَا قُلْتُ فُضُولًا فِي مَعْرِفَةٍ شَخْصِيَّةٌ الرَّجُلِ المُسْلِمِ وَاسْلَامِه ، مِثْلَ هَذِهِ الحِوَارَاتُ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَخْدِمُهَا ستالني مَعَي كُنْتُ أَعِي تَمَامًا مَاذَا تُرِيدُ ، كَمَا كُنْتُ حَرِيصًا أَنْ أُقَدِّمَ لَهَا الإِسْلَامَ عَلَى طَبَقًا مِنْ الذَّهَبِ الخَالِصُ ، مُدَّتُ ستالني يَدُهَا لتضهعا فَوْقَ يَدَيْ أَثْنَاءَ شَرْحِي لَهَا فِي مَكْتَبَةِ الجَامِعَةِ ، فَسَحَبَتْ يَدَي بِسُرْعَةٍ وَأَفْهَمَتْهَا إِلَّا تَكَرُّرٌ ذَلِكَ مَعَي وَإِلَّا سَوْفَ تُخَسِّرُ مُسَاعَدَتُي لَهَا ، وَأَفْهَمَتْهَا إِنَّ هَذِهِ الخُطْوَةَ مِنْهَا بِمَثَابَةِ تَقْدِيمٍ نَفْسُهَا لِلطُّرَفِ الأُخُرُ طَوَاعِيَّةً ، وَإِنْ هَذِهِ يُنَبِّذُهُ الدِّينُ الإِسْلَامِيُّ , وَعَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَأْمَنَّ نَفْسَهَا مِنْ كُلٍّ مَا يُحِيطُ بِهَا وَخَاصَّةً البَشَرَ ، لَقَدْ اِسْتَغْرَبَتْ حَدِيثِي وَتَشَوَّقْتِ أَنْ تَعْرِفَ أَكْثَرَ عَنْ هَذَا الجَانِبِ فِي الإِسْلَامِ وَخَاصَّةً المَرْأَةَ ، وَكُنْتُ أَشْرَحُ لَهَا عَنْ الإِسْلَامِ مَا فِي إِمْكَانِيَّاتِي المُتَوَاضِعَةُ ، حَتَّى أَهْدَيْتُهَا كِتَابَ مُتَرْجِمٍ عَنْ كُلِّ مَا يَخُصُّ المَرْأَةَ .
تَفَاجَأْتَ بِأَنَّ ستالني كَانَتْ مُشْكِلَةٌ مَجْمُوعَةٌ دُونَ عَلَمِي مِنْ الطُّلَّابِ ، وَكَانَتْ تُنَقِّلُ كُلُّ مَا يَدُورُ مِنْ أَحَادِيثَ بَيْنَي وَبَيْنَهَا ، حَتَّى يُقِيمُوا تَوَجُّهَاتِي ضَنَّا مِنْهُمْ إِنَّي إِرْهَابِي جَاءَ يَسْتَهْدِفُ بَلَدُهُمْ وَدِيَانَاتُهُمْ ، وَتَعَامَلْتُ مَعَ الأَمْرِ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ وَكَأَنَّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا ، وَمِضَتْ الأَيَّامُ وَتَعَمَّدَتْ أَنْ أَظْهَرَ لِهُمْ كَيْفَ يَكُونُ التَّسَامُحُ مَعَ الأخرين فِي مُوَاجَهَةٍ بَعْضُ خِلَافَاتِهِمْ مَعَ بَعْضِهُمْ البَعْضُ ، لَمْ أَكُنْ مُلْتَحِي حَتَّى يَخْشَانِي الجَمِيعُ ، وَلَمْ أَكُنْ فَقِيرًا حَتَّى لَا أَعْرِفُ مُجَارَاتُهِمْ فِي كُلِّ جَوَانِبِ حَيَاتِهِمْ ، فَأَنَا فِي مُسْتَوًى ؟ رَفِيعٌ مِنْ المَعِيشَةِ يمكني مَنْ فَهِمَ عَالَمُهُمْ وَالإِطْلَاعُ عَلَى كُلٍّ تفاصيلة قَبْلَ المَجِيءِ إِلَيْهِمْ وَالإِنْخِرَاطُ فِي أَدَقُّ تَفَاصِيلَ حَيَاتُهِمْ اليَوْمِيَّةُ ، وَبَعْدَ إِكْمَالِ السَّنَةِ الأُولَى طَلَبَتْ مِنْ ستالني مَعَ بَعْضٍ مَنْ أَصْدِقَاءَهَا زِيَارَتُي فِي مَوْطِنِي ، كَمَا أَطْلَعْتُهُمْ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الجَمِيلَةِ لِلأَمَاكِنِ السِّيَاحِيَّةِ الغِنَاءِ , هُمْ مُطْمَئِنُّونَ لِي وَأَحَبُّوا الفِكْرَةَ ، كَمَا إِنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى جُوجْل وقراؤو الكَثِيرَ عَنْ مَوْطِنِي وَأَخْلَاقِ شُعْبَةٍ ، وَهُنَا اِتَّفَقْنَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِهَذَا الْخُصُوصِ .
اِسْتَقْبَلْتُهُمْ فِي بَلَدِي وَاِرْتَحَلْتُ بِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلِمُدَّةِ شَهْرٍ كَامِلٌ عَلَى نَفَقَتَيْ الخَاصَّةُ ، حَتَّى أَصْبَحَتْ مَنْ الَّذِينَ يَثِقُونَ بِهِ وَكَانَ حَدِيثُهِمْ يَزْدَادُ غَرَابَةٌ عَنْ مَا يَسْمَعُوهُ وَيُشَاهِدُوهُ عَنْ الأسلام وَالمُسْلِمِينَ ، وَأَقْنِعَتِهِمْ بِأَنَّ فِي مَوْطِنِهِمْ كَذَلِكَ دِيَانَاتٌ لَا تُطَبِّقُ الدِّينَ وَرِجَالٌ وَنِسَاءُ أَخْلَاقِيَّاتِهِمْ لَيْسَتْ حَسَنَةٌ وَرُبَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَةٍ ، وَهَكَذَا هُوَ الحَالُ مَعَ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ طَبِيعَتِهِ الإِنْسَانِيَّةُ ، فَالدِّينُ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةً بِتَصَرُّفٍ الخَارِجِينَ عَنْ تعاليمة ، أَوْ مَنْ يُفَسِّرُونَ تَعَالِيمَ دِينِهِمْ عَكْسَ مَا جَاءَ وَأُنَزِّلُ ، قَدْ بداؤ يَعْشَقُونَ حَدِيثِي عَنْ الأسلام وَالمُسْلِمِينَ ، وَمَا زَادَ الأَمْرَ مَحَبَّةَ وأَلْفَةٍ هو مَحَبَّةِ النَّاسِ فِي بَلَدِي لِكُلِّ ضَيْفٍ ، فَقَدْ لِأَقْوَا تَرْحِيبٌ لَمْ يُلَاقُوهُ قَطُّ قَبْلَ هَذَا .
تَفَاجَأْتُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي تُرْسِلُ لِي ستالني عَلَى الفَيْس صَوَّرْتَهَا وَهِيَ تَرْتَدِي الحِجَابَ , ضَنَنْتُ فِي لَحْظَةٍ إِنَّهَا دُعَابَةٌ ، لَكِنَّ الفِيدِيُو كَانَ مَقْنَعٌ جِدًّا عِنْدَمَا سُمْعَتُهَا وَهِيَ تَتَحَدَّثُ عَنْ رَغْبَتِهَا الأَكِيدَةُ لِدُخُولِ الأسلام ، وَإِنَّهَا اِلْتَقَتْ بِرَجُلٍ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ المُسْلِمِينَ وَبَدَأَتْ فِعْلًا تتَعَلُّمٌ اِدْأَبْ الإِسْلَامُ عَلَى يَدَيْهُمَا عَمَلِيًّا ، فَرَّحْتَ كَثِيرًا وَسَرَرْتُ بِهَذَا الخَبَرِ الَّذِي نَزَلَ عَلَى قَلْبِي كَالثَّلْجِ ، كُنْتُ فِي شَوْقٍ إِلَى رُؤْيَةِ ستالني بِالحُجَّابِ عَلَى الطَّبِيعَةِ أَوْ مُشَاهَدَتُهَا وَهِيَ تُصَلِّي ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِيَّ مَا هِيَ إِلَّا شَهْرٍ وَأُعَوَّدُ إِلَى أُكْسفُورد لَأُبْدَا المَوْسِمَ الثَّانِيَ مِنْ دِرَاسَتِي ، وَكُنْتُ عَلَى تَوَاصُلٍ مُسْتَمِرٌّ مَعَهَا عَبْرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ اليَوْمِيِّ ، كَمَا أَخْبَرْتِنِي بِأَنَّهَا اِخْتَارَتْ اِسْمَ مَرْيَمَ تَيَمَّنَّا بِالسَّيِّدَةِ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ ، كَمَا عَاشَتْ سَابِقًا تَحْلُمُ يَلِقْيَاهَا وَهِيَ فِي الكَنِيسَةِ ، قُلْت لَهَا خَيْرٌ مَا اِخْتَرْتِ .
مُرُّ عَلَى اِنْقِطَاعِ ستالني عَفْوًا مَرْيَمُ عَنْ التَّوَاصُلِ مَعَي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , لَمْ تُعَوِّدْنِي عَلَى هَذَا الاِنْقِطَاعِ ، حَاوَلْتَ الوُصُولَ إِلَى كُلِّ حِسَابَاتِهَا دُونَ جَدْوَى اِتَّصِلْ عَلَى هَاتِفِهَا مُغْلَقٌ ، ثُمَّ حَادِثَتُ أَحَدٌ أَصْدِقَائِنَا وَسَأَلَتْهُ عَنْهَا , فَكَانَ رَدُّهِ غَرِيبٌ جِدًّا ، قَالَ إِنَّ مَرْيَمَ مَفْقُودَةٌ مُنْذُ ثَلَاثِ أَيَّامٍ وَالكُلُّ يَبْحَثُ عَنْهَا وَتَمَّ إِبْلَاغُ الشُّرْطَةِ عَنْ غِيَابِهَا ، وَاِتَّضَحَ إِنَّهَا سَافَرَتْ إِلَى سُورِيَا ، اِسْتَغْرَبَتْ الأَمْرَ سُورِيَا ؟!! ، قُلْتُ فِي نَفْسِيَّ رُبَّمَا ذَهَبْتُ مع الرَّجُلِ وَزَوْجَتُهِ لِزِيَارَتِهِمْ أَوْ التَّعَرُّفِ عَلَى بِلَادِهِمْ ، لَكِنَّهُ ردُدّ عَلَى مَسَامِعِي .. مِنْ ثَمَّ سَافَرْتَ إِلَى العِرَاقِ وَهُنَاكَ اِخْتَفَتْ ، قُلْتِ لَهُ مَاذَا تَقْصِدُ بِكَلِمَةٍ اِخْتَفَتْ ، حَدَّدَ مَا تَقُولُ جَيِّدًا بِأَدَقِّ مَفْهُومٍ ؟ ، قَالَ أَنَّ السُّلُطَاتِ تَقُولُ إِنَّهَا اِنْضَمَّتْ إِلَى الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةُ دَاعِشْ, وَيْلُي .. هَكَذَا خَرَجَتْ مِنِّي الكَلِمَةُ دُونَ وَعْيٍ ، نَعَمْ اِسْتَحْضَرَتْ شَخْصِيَّةُ ستالني قَبْلَ وَمَرْيَمُ حَالِيًّا وَإِنَّنِي أَنَا السَّبَبُ فِي كُلِّ مَا حَصَلَ لَهَا إِذَا كَانَتْ لَحِقَتْ فِعْلًا بِصُفُوفِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةُ كَمَا يَدَعُونَ أَوْ بالأحرى دَاعِشْ ، لَقَدْ كُنْتُ بِعِيْد عَنْهَا فِي الفَتْرَةِ الَّتِي قَرَّرَتْ دُخُولَ الأسلام وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ الدواعش الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ شُبَّاكَهُمْ للذين لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُمْ فَهِمَ الدِّينَ عَلَى أُصُولِهِ وَحَقِيقَتُهُ فَأَغْوِهَا ، حَجَزْتَ عَلَى أَوَّلِ رِحْلَةٍ إِلَى انجلترا ، وَهُنَاكَ تَقَابَلْتَ مَعَ كُلِّ الأَصْدِقَاءِ بِمَا فِيهِمْ أُمِّهَا وَأَبِيهَا ، حاولت مِنْهُمْ فَهِمَ مَا حَصَلَ بِالتَحْدِيدِ ، لَكِنَّهُمْ اِتَّهَمُونِي بِأَنَّي السَّبَبُ فِي كُلِّ مَا حَصَلَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ مَوْجُودٌ فِي حَيَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ حَصَّلَ مَا حَصَلَ ، فِعْلًا هُمْ عَلَى حَقٍّ ، أَنَا بَدَأْتُ شَيْئًا وَلَمْ أَكْمَلُهُ كَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ ، لَكِنَّ مَا أَدِرَّانِي أَنَا بِمَا يَحْصُلُ فِي انجلترا ، حَتَّى أَنَا تَفَاجَأْتُ بِقَرَارِهَا دُخُولِ الإِسْلَامِ فَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ قَبْلَ مُرَاسَلَتِهَا لِي عَنْ نَوَايَاهَا المُسَبَّقَةُ .

كَثِيرٌ مِنْ الأَفْكَارِ الغُيُرَ جَيِّدَةُ مَرْت عَلَى مُخَيِّلَتِي وَمِنْهَا سَفِّرِي إِلَى العِرَاقِ أَوْ سُورِيَا لِأَتَمَكَّنَ هُنَاكَ مِنْ الدُّخُولِ إِلَى دَاعِشْ وَاِسْتِرْجَاعُهَا ، لَكِنْ دُخُولُ هَذِهِ المُنَظَّمَةِ لَيْسَ بِالشَّيْءِ الهَيِّنِ وَاليسيرِ ، قَدْ أَعُودُ بِهَا وَقَدْ لَا أَعُودُ حَتَّى أَنَا!! , كُنْتُ أَقِفُ عَلَى شُرْفَةٍ مِنْ شُرْفَاتِ بِنَايَةٍ بِمَدِينَةِ أُكْسفُورد حِينَ وَصَلْتُ رِسَالَةً عَلَى لاَبْتُوبٍ كَانَتْ مِنْ مَرْيَمَ ، لَقَدْ قَرَأَتْ الرِّسَالَةَ وَأَنَا غَيْرُ مُصَدَّقٍ مَا أَقْرَأُ ، مَرْيَمُ تَدْعُونِي للإنظمام إِلَى دَاعِشْ ، كَمَا تَدْعُونِي عَلَى الجِهَادِ ، رَغْمَ إِنَّهَا فِي السَّابِقِ عِنْدَمَا كَانَتْ ستالني كَانَتْ تُنَبِّذُ الأرهاب وَمَنْ يُرَوِّجُ أَوْ يُخَطِّطُ لَهُ ، حَاوَلْتُ أَنْ أَسْتَمِيلَهَا بِطَرِيقَةٍ تَجْعَلُهَا تَسْتَمِرُّ مَعَي عَلَى التَّوَاصُلِ دُونَ أَنْ تَقْطَعَ الاِتِّصَالَ ، فَأَعْلَمُ مَا تَبُثُّهُ هَذِهِ المُنَظِّمَاتُ مِنْ سَمُومٍ فِي نُفُوسِ اِتِّبَاعِهَا ، أَخْبَرَتْ أُمُّهَا وَأَبِيهَا وَبُدُورُهُمْ اُبْلُغُوا السُّلُطَاتِ البِرِيطَانِيَّةَ الَّتِي وَظَّفَتْ اِمْرَأَةً وَرِجْلَيْنِ فِي مُتَابَعَةِ حَدِيثِي مَعَ مَرْيَمَ وَهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَنِي اِخْتِيَارَ الكَلِمَاتِ المُنَاسَبَةَ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ ، اِسْمَرَّتْ المُحَادَثَةُ بَيْنَي وَبَيْنَهَا قَرَابَةُ أَرْبَعَةً عَشْرَةَ يَوْمًا ، كُلَّ يَوْمٍ سَاعَةٌ حَتَّى أَقْنِعَتُهَا بِأَنَّي سَوْفَ أَكُونُ بِالعِرَاقِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ هِيَ فِي صُحْبَةِ الأَشْخَاصِ الَّذِينَ سَوْفَ يقمون بِإِدْخَالِي إِلَى دَاعِشْ وَإِلَّا لَنْ أَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ أَبَدًا ، رَغِبْتُهَا بِقُرْبِيَّ مِنْهَا كَانَ لَهُ دَوْرٌ إِيجَابِيٌّ فِي إِنْجَاحِ المُحَاوَلَةِ ، وَهَكَذَا دَبَّرَتْ السُّلُطَاتُ البِرِيطَانِيَّةُ بِمُخَابَرَاتِهَا وَأَجْهِزَتُهَا كَيْفِيَّةَ اِصْطِيَادٍ مَرْيَمُ وَمِنْ مَعَهَا وَالعَوْدَةُ بِهَا إِلَى البِلَادِ وَكُنْتَ أَنَا الطَّعْمُ ، قَبْلَت هَذِهِ المُهِمَّةُ لِإِحْسَاسِي بِالنَّدَمِ وَإِنَّي جُزْءٌ مِنْ سَبَبِ اِلْتِحَاقِهَا بِدَاعِشْ رَغْمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صَحِيحٌ ، سَافَرَتْ مَعَ المُخَابَرَاتِ البِرِيطَانِيَّةَ إِلَى العِرَاقِ وَهُنَاكَ كَانَ لِأَبُدَّ مِنْ المُضِيِّ بِالخُطَّةِ عَلَى أَدَقِّ تَفَاصِيلِهَا دُونَ أَيُّ خَطَاءٍ فَقَدْ يُكَلِّفُنِي حَيَاتِي وَحَيَّاة مِنْ مَعَي مِنْ رِجَالِ المُخَابَرَاتِ .
تَمَّ الاِتِّفَاقُ بَيْنَي وَبَيْنَهَا بِإِلْقَاءٍ فِي شِقَّةٍ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءٍ البَصْرَةُ ، وَاِسْتَغْرَبْتُ لِمَاذَا البَصْرَةُ بِالتَحْدِيدِ رَغْمَ إِنَّهَا بَعِيدٌ عَنْ مَرْمَى دَاعِشْ فِي ذَاكَ الوَقْتَ بِالتَحْدِيدِ ، لَكِنَّ المُخَابَرَاتُ كَانَتْ تَعَرُّفٌ بِأَنَّ هَذَا المَوْعِدُ لَيْسَ حَقِيقِيٌّ إِنَّمَا هُوَ اِخْتِبَارٌ لِلمَوْعِدِ القَادِمِ وَمُجَرَّدٍ جَسَّ نَبْضٌ لَيْسَ إِلَّا ، حَضَرْتُ إِلَى الشِّقَّةِ حَسَبَ العُنْوَانِ وَدَخَلْتُ وَلَمْ أَرَى أَحَدَ مُطْلَقًا وَاِنْتَظَرْتُ طَوِيلًا حَتَّى الوَاحِدَةَ لَيْلًا ثُمَّ غَفْوَتُ ، وَفِيَّ صباح اليَوْمَ الثَّانِي غَادَرَتْهَا إِلَى الفُنْدُقِ الَّذِي حَجَزَتْهُ لِي المُخَابَرَاتُ ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ غُرْفَةِ الفُنْدُقِ طُولَ اليَوْمَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي اِنْتِظَارِ رِسَالَةٍ مِنْ مَرْيَمَ ، ظِلَّ الابتوب مَفْتُوحُ يَوْمَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ, لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَيِّ أَحَدٍ وَلَمْ أَتَلَقَّى اِتِّصَالٌ حَتَّى مِنْ المُخَابَرَاتِ نَفْسُهَا ، حَتَّى إِنَّي ضَنَنْتُ إِنَّهُمْ لَا يُتَابِعُونَنِي فِي الأَصْلِ ، فَكُلُّ الهُدُوءِ المُدْقِعِ فِي غُرْفَتِي بِالفُنْدُقِ جَعَلَنِي أَشُكُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، اليوم الخَامِسُ وَالشَّمْسُ تُعْلِنُ قُرَابَةَ مغيبها خَرَجَتْ إِلَى لُوبِّي الفُنْدُقِ ثُمَّ إِلَى الحَدِيقَةِ ، جَلْسَتُ أُشَاهِدُ الغُرُوبَ وَأَنَا أَحْتَسِي قَدْحَ شَايٍ أَحْمَرَ حِينَ جَلَسَ بِقُرْبِيَّ شَابٌّ وَسِيمٌ فِي عُمْرِ العِشْرِينَ أَوْ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ ، سَلَّمَ عَلَيَّ وَهَمَسَ فِي إِذْنِي بِأَنْ المَوْعِدُ سَوْفَ يَكُونُ فِي المَوْصِلِ بِشَارِعٍ الأذقية وَأَخْبَرَنِي بِرَقْمٍ البنايو وَالشِّقَّةُ ، لَمْ أَتَحَدَّثْ بِشَيْءٍ أَبَدًا أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي فَقَطْ ، وَحِينَ قَرَّرَ أَنْ يُغَادِرَ اِسْتَوْقَفْتُهُ بِكَلِمَاتٍ (اِشْتَقَّتْ إِلَى مَرْيَمَ كَثِيرًا .. أَبْلَغَهَا سَلَامِي .. فالتحيال الدَّوْلَةُ الإِسْلَامِيَّةُ واليموت دُونَهَا كُلُّ مُسْلِمٍ ) ، نَظَرَ إِلَى نَظْرَةٍ المَغْضُوبُ عَلَيْهُمْ وَرِحَلٌ ، أَرْدَتْ أَنْ أَوْصَلَ لَهُ مَفْهُومٌ إِنَّي أَهْتَمُّ بِمَرْيَمَ وَلَدَيَّ الدَّافِعُ القَوِيُّ لِلاِلْتِحَاقِ بِصُفُوفِ دَاعِشْ ، أَتَمَنَّى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ حَسَبَ مَا أَرَدْتَ .
خَرَجْتُ فِي اليَوْمَ السَّادِسُ إِلَى المَوْصِلِ وَدَخَلْتُ الشِّقَّةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الأَصْلِ غَيْرَ موصودة ، لَكِنَّ مَا أَخَافَنِي وَبَعَثَ الرَّهْبَةَ فِي قَلْبَيْ الدَّمَارِ العَظِيمُ الَّذِي شَاهَدْتُهُ عَلَى الطَّبِيعَةِ فِي المَوْصِلِ ، جَلَسَتْ عَلَى الكَنَبَةِ المُمَزِّقَةُ الَّتِي عَفَّرَتْ بِغُبَارِ الدَّمَارِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ الجِدَارِ المُهَدَّمُ الَّذِي يُطِلُّ إِلَى خَلْفِ البِنَايَةِ حِينَ دَخَلَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِصُحْبَتِهِمْ اِمْرَأَةٍ ، أَخَذَتْ أَنْظُرُ إِلَى المَرْأَةِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ وَهُمْ متسمرون دُونَ حَرَكَةٍ فَقَلَتْ مَرْيَمُ ، لَمْ تُزِحْ الحُجَّابَ عن وجهها بَلْ قَالَتْ كَلِمَةٌ أَوِّل مَرَّة أَسْمَعُهَا بِصَوْتِهَا .. نَعَمْ , أَيْقَنْتُ إِنَّهَا هِيَ ، فَهَذِا الصَّوْتُ سَكَنَ عَقْلَي وفوادي وَقَلْبِي قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ طَبْلَةً أُذْنَاي ، لَقَدْ تَحَمَّلَتْ أَثْنَاءَ شَرْحِي لَهَا مَا لَمْ تَتَحَمَّلْهُ الجِبَالُ وَأَنَا أَصُدُّ نَفْسِي عَنْهَا ، نَعَمْ إِنَّهَا حَبِيبَتُي مَرْيَمُ , وَقَالَ أَحَدُ الرِّجَالِ الثَّلَاثَةَ بِصَوْتٍ أَجَشَّ مبحوح .. هَيَّا أَمَامَي ، ثُمَّ صَرَخَ بِي .. تَحَرُّكٌ ، خَرَجَتْ أَمَامَهِمْ مِنْ الشِّقَّةِ وَهْمٌ خَلْفِيٌّ وَمُسَدَّسَاتُهِمْ تَحْتَ مَلَابِسِهِمْ مَوْجِهِ نَحْوِي وَمَرْيَمُ تَسِيرُ فِي الخَلْفِ ، خَرَجْنَا وَرَكَّبْنَا بِيكَ آبُ مهترأه ثُمَّ سَارُّوا بِي فِي الطَّرِيق العَامَّ وَإِلَى الطُّرُقِ الدَّاخِلِيَّةُ المُلْتَوِيَةُ فِي المَوْصِلِ ، هُنَا فَقَدْتُ الأَمَلَ لِأَنَّي لَمْ أَلْحَظْ أَيَّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُخَابَرَاتِ البِرِيطَانِيَّةَ تُلْحِقُ بِنَا أَوْ حَتَّى أشارة مُعَيَّنَةٌ فِي المَكَانِ الَّذِي كُنْتُ بِهِ أَوْ أي علامة فِي الطَّرِيقُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، قُلْتُ فِي نَفْسِيَّ لَكَ اللّةَ وَحْدَةٍ ، ثُمَّ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّةٍ بِصَوْتٍ عَالٍي سُمْعَةُ الجَمِيعِ ، وَبَيْنَ سِكَّةٍ طَوِيلَةٌ ومختنقة تَدَخُّلُهَا سَيَّارَةٌ أُلَبِّيكَ آبُ لَيْسَ لَهَا إِلَى مَدْخَلٍ وَاحِدٌ وَمَخْرَجٍ وَاحِدٌ بِالسَّيَّارَةِ ، دَخَلَتْ عَلَيْنَا مُدَرَّعَاتٌ مِنْ الجَانِبَيْنِ ثُمَّ حَامَتْ فَوْقَ رَؤُسَنَا طَائِرَةُ الهلكوبتر فَجْأَةً ، تَوَقَّفَ الرَّجُلُ الَّذِي يَقُودُ السَّيَّارَةَ وُوجِهَ مُسَدَّسَةٌ نَحْوَ رَأْسِي وَمَرْيَمُ تَصْرُخُ تارة بِالعَرَبِيِّ وتارة بِالإِنْجِلِيزِيِّ وَهُمْ يُجْرُونِي خَارِجَ السَّيَّارَةِ نَحْوَ بَابٍ أَحُدِى البِنَايَاتِ بِهَذِهِ السِّكَّةِ حَتَّى اُدْخُلُونِي ، هَدِّدُونِي بِالقَتْلِ لَكِنَّهُمْ أَيْضًا هُمْ يَعْرِفُونَ تَمَامًا إِنَّنِي وَرَقَتُهُمْ الرَّابِحَةُ ، إِنْ قَتَلُونِي وَكَأَنَهِمَ سَلَّمُوا أنفسم لِلعَدُوِّ لِيُطْلِقَ عَلَيْهُمْ النَّارَ ، المُصَادَفَةُ الجَمِيلَةُ إِنَّهُمْ وَجَّهُوا مُسَدَّسَهُمْ كَذَلِكَ لِمَرْيَمَ ، هُنَا سَأَلْتَهِمُ مَرْيَمَ لِمَاذَا ؟!! ، قَالُوا لِأَيِّهُمْ .. المُهِمُّ أَنْ نَخْرُجَ نُحَنِّهُ مِنْ هُنَا بِسَلَامٍ وَإِلَّا مُتُّمْ أَنْتُمْ الاِثْنَيْنَ ، كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى مَرْيَمَ وَالرَّجُلُ يُحْدِثُهَا وَكَأَنَّي أَرْسَلَ إِلَيْهَا رِسَالَةً قَوِيَّةٌ لِتَعِيَ مَا أَقْحَمَتْ بِهِ نَفْسُهَا لَيْسَ كَمَا صَوَّرَ لَهَا ، القُوَّاتُ البِرِيطَانِيَّةَ حَاصَرَتْ المَكَانَ كُلَّهُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَخْرَجٌ لِلرِّجَالِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا المَوْتِ أَوْ تَسْلِيمٍ نَفْسُهُمْ ، حَاوَلْتُ أَنْ أُقْنِعَهُمْ بِتَسْلِيمٍ نَفْسَيْهُمَا لِيَبْقَيَا عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ ، لَكِنَّهُمَا فِي بِدَايَةِ الأَمْرِ قَاوَمُوا وَقَالُوا لِي ..

إِذَا تَحَدَّثَتْ مَرَّةً أُخْرَى سَوْفَ نُفَجِّرُ رَأْسَكَ ، أَجْلَسُونِي وَمَرْيَمَ عَلَى زَاوِيَةٍ مِنْ جِدَارِ أَحَدِ الشِّقَقِ وَبَقَى مَعَنَّا أَحَدُ الرِّجَالِ الثَّلَاثَةُ ، فِيمَا ذَهَبٌ الاِثْنَيْنَ مِنْهُمْ لِاِسْتِطْلَاعِ الوَضْعِ مِنْ خِلَالِ النَّوَافِذِ ، لَكِنَّهُمْ ضَلُّوا فَتْرَةً لَمْ يَعُودُوا ، وَهُنَا بَدَأَ الرَّجُلُ الَّذِي بِصُحْبَتِنَا يُنَادِي عَلَى أَسْمَائِهِمْ لَكِنَّ دُونَ مُجِيبٌ ، أَصَابَهُ الهَلَعُ وَأَخَذْنَا أَمَامَهُ وَهُوَ يَتَفَقَّدُ الشِّقَّةَ وَحِينَ كُنَّا بِغُرْفَةِ المَعِيشَةِ إِذَا بِرَصَاصَةٍ تَخْتَرِقُ الجِدَارَ وَتُصِيبُ الرَّجُلَ فَيُسْقِطُ صَرِيعٌ ، جَرْيِنَا أَنَا وَمَرْيَمُ إِلَى أَسْفَلَ البِنَايَةُ حَتَّى خَرَجْنَا مِنْ بِأَبْهَا إِلَى السِّكَّةِ الضَّيِّقَةُ رَافِعَيْنِ أَيَادِيَنَا ، هَجَمَ عَلَيْنَا الجُنُودُ وَقَادُونَا حَتَّى أَخَّرَ السِّكَّةَ ثُمَّ صعدنا عَلَى المِرْوَحِيَّةِ وَطِرْنَا إِلَى سَمَاءِ المَوْصِلِ .
لَقَدْ رَجَعَتْ مَرْيَمُ إِلَى دِيَارِهَا مَعَي وَلَكِنَّ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنَا الرُّجُوعَ إِلَى دِيَارِي أَوْ إِلَى أُكْسفُورد لِتُكْمِلَهُ دِرَاسَتُي ، لَقَدْ رُحَّلَتْ إِلَى اَمْرِيكَا ثُمَّ إِلَى غنتيناموا لِيُلْصِقَ بِي تُهْمَةَ الأرهاب وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهِ ، وها أنا أَكْتُبُ قِصَّتَي وَأَنَا خَلْفَ قُضْبَانِ الحَدِيدِ .

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي