غَرِيبَ الوَطَنِ

0
1756
  1. بِلَادِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَى عَزِيزَةٍ وَأَهْلِي وَإِنْ جَارُوا عَلَى كِرَامِ بِلَادِي وَأَنْ جَارَتْ عَلَى عَزِيزَةٍ وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ بِلَادِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَى عَزِيزَةٍ وَلَوْ إِنَّنِي أَعْرَى بِهَا وَأُجَوِّعُ

لَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الأَبْيَاتُ فِي الكَلِمَاتِ الأَخِيرَةَ مِنْ البَيْتِ الوَاحِدُ وتشابهة فِي المَطْلَعِ , كَمَا اِخْتَلَفَ الكَثِيرُ مِنْ الأُدَبَاءِ وَالشُّعَرَاءُ وَالكُتَّابُ , فَقَدْ نَسَبَتْ هَذِهِ القَصِيدَةُ إِلَى ثَلَاثٍ شَعْرَاءَ وَمِنْهِمْ أَبُو فِرَاس الحمداني , أَمَّا أَنَا هُنَا لَمْ آتِي لِلبَحْثِ عَنْ القَائِلِ الحَقِيقِيَّ هَذِهِ القَصِيدَةُ أَوْ عَنْ الأَبْيَاتِ الحَقِيقِيَّةَ مِنْ الثَّلَاثَةَ , لَكِنَّنِي جَات حَتَّى أُعَرِّفُكُمْ عَلَى مَنْ عَاشَ كَلِمَاتِهَا وَهُوَ يَتَجَرَّعُ مَرَارَةَ القَسْوَةِ وَحُرْقَةَ الجِرَاحِ الَّتِي مَزَّقَتْ قلبه المِسْكِينُ .
غَرِيبٌ .. فِي الزَّمَنِ المُظْلِمُ مِنْ الاِسْتِعْبَادِ وَلَدَ غَرِيبٌ المِسْكِينُ وَتَرَعْرَعَ مَعَ أَبِيهُ فِي مَزْرَعَةِ الشَّيْخِ ، يُخَدِّمُ مثلة مِثْلَ جِنْسِهِ مِنْ ذَوِي البَشَرَةِ السَّوْدَاءِ , يَأْلُهُ مِنْ حَظٍّ عَاثِرٌ قَادَ غَرِيبٌ عَلَى اِرْتِكَابِ جَرِيمَةٍ لَمْ يَكُنْ يَعْنِيهَا وَ لَمْ يُخَطِّطْ عَلَى تَنْفِيذِهَا لَكِنْ القَدْرُ كَانَ يَتَحَكَّمُ فِي قلبه وَيَتَلَاعَبُ بِهِ ، مِسْكِينٌ غَرِيبٌ , اِمْتِطَاءٌ غَرِيبٌ ظَهَرَ السَّفِينَةَ (البَدَنُ) وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى بَلَادَةِ نَظْرَةِ مُودِعٍ , لَمْ يَغْلِبْهُ مِثْلَ غَيْرَه الطُّمُوحِ وَلَمْ تَدْفَعْ بِهِ الأَحْلَامُ إِلَى شَقِّ أَشْرِعَةِ البِحَارِ وَالصَّوَارِي لِلسَّفَرِ أَوْ الغُرْبَةِ , فِرَاقٌ الوَطَنُ وَالأَهْلُ كَانَ أَشَدَّ فَتْكًا مِنْ تَحْطِيمِ نوخذة لِبَدَنِهِ عَلَى صُخُورِ جَزِيرَةٍ مَجْهُولَةٍ بِعالم إِلَّا عَوْدَةٍ , كَانَتْ أُمَّةٌ تُمَسِّحُ دُمُوعَهَا المُنْهَمِرَةَ كَسَيْلِ الحيمر بلِيُسَوِّهَا المُخَلَّطُ بِالصَّنْدَلِ والورس وَالزَّعْفَرَانُ .
غَادَرَ غَرِيبٌ فِي صَمْتٍ وَاِنْكِسَارٌ دُونَ أَنْ تُسِيلَ مِنْ مِحْجَرٍ عَيْنِيَّةَ دَمْعَةِ وَدَاعٍ , غارد كلمكلوم الَّذِي جِفُّ لِحُزْنِهِ مُوقٌ عَيْنِيَّة , فَاُنْشُدْ فِي صَدْرِهِ أَبِيَّاتِ القَصِيدَةِ وَلَكِنَّ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ الجُرْأَةُ لِيُكْمِلَهَا , أَحِسَّ بِأَنَّ وِجْدَانَهُ تَحَطُّمُ حِينِ بدأ بِتَرْتِيلِ الجُزْءِ الأَخِيرِ مِنْ البَيْتِ الأَوَّلُ وَأَهْلِي وَإِنْ جَارُوا… , خَنَقَتْهُ العِبْرَةُ وَأَخِيرًا أَخْذًا يُجْهِشُ بِالبُكَاءِ كَطِفْلِ مفطوم عَنْ المُرْضِعِ , يتنشج وَكَأَنَّ الرُّوحُ تَخْرُجُ مِنْ حُلْقُومِهِ , فَجْأَةً سَقَطٌ مَغْشِيَّا عَلَيْهِ , تَسَارَعَ البَحَّارَةُ وَمَنْ كَانَ فِي البَدَنِ مِنْ أَشْبَاهِهِ مِمَّنْ سَافَرَ , اِنْتَشَلُوهُ وَرَّمُوا عَلَى وَجْهُهُ وَجَسَّدَهُ دَلْوُ مَاءٍ , ظَنُّوا إِنَّهَا نَوْبَةُ دَوَّارِ البَحْرِ أَصَابَتْهُ , أَفَاقَ غَرِيبٌ مِنْ غَيْبُوبَتِهِ الَّتِي كَانَتْ فِي لَحْظَةِ تنسية حَيَاتُهُ لِلأَبَدِ , مِسْكِينٌ غَرِيبٌ خَطَأُهُ الأَكْبَرَ كَمَا هُوَ العُرْفُ السَّائِدُ بَيْنَ القَبَائِلِ آناذاك بِعَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ زَوَاجِ الأُسُودِ مِنْ الأَبْيَضِ ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ هَذَا الأُسُودَ لَمْ يُعْتِقْ بَعْدُ وَمَا زَالَ مُولًا لِأَحَدِ القَبَائِلِ , وَمُشْكِلَةٍ غَرِيبٌ الطامة الكُبْرَى فَمَا اِسْتَبَاحَ لَهُ قلبة سِوَى أَنْ يُحِبَّ اِبْنَةَ الشَّيْخِ , مَا هَكَذَا تَأْكُلُ الكَتْفُ يَاغَرِيبٌ , لَكِنَّ غَرِيبٌ لَا يُلَامُ أَبَدًا , فَمِنْ القُلُوبِ مَا قَتَلَتْ أَصْحَابَهَا , لَيْسَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الرَّئِيسِيُّ الَّذِي جَعَلَ غَرِيبٍ يَتْرُكُ وطنة وَأَهْلُهُ , حُبُّ اِبْنَةِ الشَّيْخِ لَيْسَ كُلَّ شَيْءٍ , لَكِنْ الإِهَانَةُ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ أَبُوهُ كَانَتْ لَهَا وَقْعٌ غَائِرٌ فِي كِبْدِهِ , عِنْدَمَا عَلِمَ الشَّيْخُ بمواعدة غَرِيبٌ لِاِبْنَتِهِ ثَارٍ غَاضِبًا وَأَمْرُ برط غَرِيبٌ عَلَى أَحُدِى النَّخِيلَ بِالضَّاحِيَةِ وَتَخَلَّعَ مُلَابَسَةٌ وَيَتْرُكُ الوزار فَقَطْ , وَبَعْدَهَا أَمَرَ الشَّيْخُ بِإِبْلَاغٍ أَبَوْهُ بِالأَمْرِ وَأَنْ يَحْضُرَ عَلَى الفَوْرِ , وَكَانَ لَأَبَوْ غَرِيبَ عِنْدَ الشَّيْخِ حُبٌّ وَاِحْتِرَامًا كَبِيرَيْنِ , وَعِنْدَهَا حَضَرَ أَبُو غَرِيبُ وَرَاهُ مُقَيَّدًا عِلَّى حَالَه وَسَأَلَ عَنْ السَّبَبِ , فَأَخْبَرَهُ الشَّيْخُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ , فَأَخَذَ أَبُو غَرِيبُ المجيز مِنْ يَدٍ أَحُدِى البيادير وَقَصٌّ عَوَّدَ شَجَرَةً أَخْضَرُّ مِنْ الحَبَنِ كَانَتْ تَتَوَاجَدُ عَلَى طَرَفِ السَّاقِيَةِ الأَيْمَنُ مِنْ النَّخْلَةِ الَّتِي رَبَطَ عَلَيْهَا غَرِيبٌ , اِنْهَالَ عَلَى اِبْنِهِ ضَرْبًا وَهُوَ يَرْدُدْ عَلَى مَسَامِعِ غَرِيبٍ وَبِحُضُورِ الشَّيْخِ وَحَاشِيَتُهِ ( أَنْتِ جَنَيْتَ يَا غَرِيبٌ .. سَمِعْتُ فِي حَيَاتِكَ غُرَابٍ فَوْقَ يَاسْمِينَةٍ مِنْ قَبْلُ ) , وَهَكَذَا اِسْتَمَرَّ أَبُو غَرِيبُ يَكْوِي قَلْبُ اِبْنِهِ كَمَا يَكْوِي ظَهْرَهُ بِالسِّيَاطِ , اِنْتَشَلَ غَرِيبُ جَسَدِهِ المُتَهَالِكِ وَمَدَّ يَدَاهُ عَلَى حَافَّةِ البَدَنِ حَتَّى اِسْتَطَاعَ أَنْ يَقِفَ عَلَى رَجُلَيْهِ وَيُنَاظِرُ الغُرُوبَ الَّذِي كَسَا السَّمَاءَ الزَّرْقَاءَ بِأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ زَادَتْ الكَآبَةُ فِي مَحَيَاهُ وجوفة , اِقْتَرَبَ أَحَدٌ المُسَافِرِينَ مِنْهُ وَهُوَ يَحْمِلُ فِي يَدِهِ قَدْحًا مِنْ فِنْجَانِ قَهْوَةٍ سِيلَانِيَّةٍ , مَدُّ يَدِهِ بِالفِنْجَانِ نَحْوَ غَرِيبٍ , نَزَعَ الفِنْجَانُ مِنْ يَدِ الرَّجُلِ وَأَوْلَجَهُ فِي فَآهَةٌ وَهُوَ يَنْظُرُ لِلرَّجُلِ المُسَافِرِ مُحَدِّثًا إِيَّاهُ ( إِنَّهُ لَيْسَ أَمَرُّ مِنْ الفِنْجَانِ الَّذِي شُرْبَتُهِ مَنَّ اَبِي وَالشَّيْخُ ) , ثُمَّ رِمَا بِالفِنْجَانِ إِلَى غبة البَحْرُ , وَقَالَ متمتما فِي ذَاتِهِ المُحَطِّمَةُ إِنَّكِ أُخُرُ فِنْجَانٍ مُرٍّ أَشْرَبُهُ , وَغَدًا لَنَاظَرَهُ لِقَرِيبٍ , هَكَذَا فَهِمَ الرَّجُلُ المُسَافِرُ مَا فَعَلَهُ غَرِيبَ حِينِ رَمْيٍ بِالفِنْجَانِ وَحِينَ أُمَاءَ بِرَأْسِهِ مستدركا هَذَا الفِعْلُ , رَسَتْ البَدَنُ فِي مِينَاءِ بُومْبِي بِالهِنْدِ بَعْدُ مُدَّةً طَوِيلَةً مِنْ الأَشْهُرِ قَضَتْهَا فِي غبة البَحْرُ تتلاقفها الأَمْوَاجُ وَالأَعَاصِيرُ , لَمْ يُسَبِّقْ لِغَرِيبٍ أَنْ سَافَرَ مُطْلَقًا فِي حَيَاتِهِ , وَلَو عَلِمَ الشَّيْخُ بِسَفَرٍ غَرِيبٍ لِرَبْطَةٍ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى النَّخْلَةِ , لَكِنَّ أُمُّهُ هِيَ مَنْ دَفْعَتُ للنوخذة بَعْدَ أَنْ رَأَتْ الهَلَاكَ فِي مَحْيًا اِبْنَهَا غَرِيبَ المِسْكِينَ , تَرَجَّلَ عَنْ ظَهْرٍ البَدَنُ وَاِنْخَرَطَ بِالسُّوقِ يُزَاحِمُ المَارَّةُ مِنْ الهُنُودِ , وَمَا زَالَ غَيْرَ مُصَدَّقٍ مَا تَرَاهُ عَيْنَاهُ , يَرَى النَّاسُ تَأْتِي مِنْ كُلٍّ فَجًّا عَمِيقٌ , وَكَأنَه دُودٌ يَغْزُو جِيفَةً مَا , أَخْذٌ يُتَجَوَّلُ فِي السُّوقِ القَرِيبُ مِنْ المِينَاءِ وَيَرَى البَاعَةُ الَّذِينَ يَفْتَرِشُونَ جَوَانِبَ أَرْصِفَةِ الطُّرُقَاتِ , وَالبَاعَةِ المُتَجَوِّلِينَ ، شَدَّ نَظْرَةَ فَتَاةٍ صَغِيرَةٌ تَقْبَعُ عَلَى قَارِعَةً الطَّرِيقَ تَرْتَدِي سَارِي جَمِيلُ وَقَدْ دَهَنَتْ جَبْهَتُهَا بالورس مَعَ نُقْطَةٍ حَمْرَاءُ تَتَوَسَّطُ جَبِينَهَا , شَاهِدُهَا وَهِيَ تَمَسُّكٌ بِحَبْلٍ طَوِيلٍ طَوَّقَ بِهِ رَقَبةَ الفِيلِ , اِقْتَرَبَ مِنْهَا وَأَخْذٌ يُحْدِقُ بِالفِيلِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ فَم يُرَى فِي حَيَاتِهِ فِيلٌ أَبَدًا , ثُمَّ تَحْدُثُ إِلَيْهَا ، لَكِنَّهَا هَزَّتْ رَأْسَهَا وَأَشَاحَتْ بِيَدِهَا غَيْرِ مُدْرِكَةٍ مَا يَقُولُ , ثُمَّ أَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ الفِيلِ , وَفَهِمَ غَرِيبٌ إِنَّهَا تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَمْتَطِيَ صَهْوَتَهُ , رَكْبُ غَرِيبٌ الفِيلِ وَأَخَذَ يتمخطر بِهِ وَسْطَ المَارَّةِ بِالسُّوقِ وَهُوَ مُبْتَهِجٌ وَكأَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ مُلُوكِ الحَبَشَةِ , هَذَا الشُّعُورُ جَعْلٌ مِنْ غَرِيبٍ أَنْ يُعِيدَ حِسَاباتِهُ مَعَ نَفْسِهُ , تَسْأَلُ .. هَلْ يَجِبُ أَنْ أَكُونَ غَرِيبَ ذَاتِهِ أَمْ عَلَيَّ أَنْ أَبْحَثَ عَنْ غَرِيبٍ آخَرُ ؟ ، فِي ذَاتِي !! , ظِلٌّ غَرِيبٌ يُتَمْتِمُ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ حَتَّى إِذَا بِهِ يَسْتَيْقِظُ مِنْ سُبَاتِ أَفْكَارِهِ وَهُوَ فِي وَسَطِ غَابَةٍ مِنْ النارجيل , طَلَبٌ مِنْ الفَتَاةِ بإماءة أَنْ تَتَوَقَّفَ وَيَتَرَجَّلُ مِنْ عَلَى ظَهْرِ الفِيلِ , مَشَى حَوْلَ أَشْجَارِ النارجيل مَسَافَاتٌ طَوِيلَةً وَهُوَ يُحَدِّقُ فِي ثِمَارِهَا وَعَلَى غدورها , ثُمَّ أَسْرَعَ نَحْوَ الفَتَاةِ وَحَاوَلَ أَنْ يَفْهَمَهَا مَا يُرِيدُ , لَكِنَّ كُلُّ مُحَاوَلَاتِهِ بَاءَتْ بِالفَشَلِ , طَلَبَتْ مِنْهُ الفَتَاةَ بِإِشَارَةٍ مِنْ خِلَالِ التَّلْوِيحِ بِيَدِهَا أَنْ يَتْبَعَهَا فَفَعَلَ , اُقْتُرَبا مِنْ كُوخٍ جَمِيلٌ وَسْطَ غَابَةٍ تَعِجُّ جنباتها بِأَشْجَارِ النارجيل وَأَلْتِين , بُهْرُ غَرِيبٍ بِمَا تَرَاهُ عَيْنَيْهُ , ثُمَّ أَقْبَلُ نَحْوَهُ شَيْخِ عَجُوزٍ كَانَ يَجْلِسُ عَلَى سُلَّمٌ بِأبَ الكُوخِ , فَالِقَيْ العَجُوزِ السَّلَامُ عَلَى غَرِيبٍ بِالطَّرِيقَةِ الهِنْدِيَّةِ المَعْهُودَةُ , تَجَاوُبُ غَرِيبٍ مَعَهُ وَرَدٌّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الإماءة فَضُحُكٌ العَجُوزُ مِنْ غَرِيبٍ , فخاطبة العَجُوزُ بِالعَرَبِيَّةِ , اِنْدَهَشَ غَرِيبٌ وَعَانَقَ العَجُوزُ بِدُونِ أن يَنْتَبِهُ مِنْ رَدِّهِ فِعْلِهِ , وَعِنْدَمَا اِسْتَدْرَكَ مَا فَعَلَ أَزَاحَ العَجُوزُ عَنْهُ بِدَفْعِهِ بَسِيطَةً إِلَى خَارِجِ جِسْمِهِ , أَشَارَ العَجُوزُ عَلَى غَرِيبٍ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَجَلَسَا يَتَبَادَلَانِ الأَخْبَارَ وَمَضَى وَقْتٌ طَوِيلٌ وَغَرِيبٌ يَحْكِي لِلعَجُوزِ سَبَبَ مَجِيئِهِ , قَرَّرَ العَجُوزُ أَنْ يُسَاعِدَ غَرِيبٌ بِشَرْطٍ أَنْ يَبْنِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ جِسْرِ تِجَارَةٍ , وَلَحَسْنَ حَظَّ غَرِيبٌ أَنَّ أُمَّهُ أَهْدَتْهُ مَا تَمْلِكُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ , بَاع غَرِيبٌ جَمِيعُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَهُوَ بِصُحْبَةِ الشَّيْخِ فِي السُّوقِ وَحَصَلَ عَلَى مَبْلَغٍ كَبِيرٌ جِدًّا أَهْلُهُ لِيَدْخُلَ شَرَّيْكَ مَعَ العَجُوزِ بِالتِّجَارَةِ , تَشَارَكَ مَعَ العَجُوزِ فِي شِرَاءِ النارجيل وَالتِّينِ المُجَفَّفُ وَتَعْبِئَتُهُ فِي جواني وَإِرْسَالُهُ إِلَى بَلَادَه , كَمَا عَقْدُ اِتِّفَاقِيَّةٍ مَعَ النوخذة بِحُضُورِ العَجُوزِ وَمُوَقِّعَ مِنْ غَرِيبٍ وَالعَجُوزِ وَالقُنْصُلِيَّةِ هُنَاكَ بِالهِنْدِ , وَأَخْبَرَ غَرِيبُ النوخذة أَنْ يَبِيعَ البِضَاعَةَ وَلَهُ نِسْبَةً مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَهَّلَ البَلَدُ أَنَّ غَرِيبٌ هُوَ التَّاجِرُ الأُخُرُ , ظِلُّ غَرِيبٍ بِالهِنْدِ سَنَوَاتٌ طَوِيلَةً يَسُوقُ النارجيل وَالتِّينُ المُجَفَّفُ إِلَى عُمَانَ ثُمَّ أَلْحَقَ بَعْدَ ذَلِكَ البَهَارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا , رَاجَتْ تِجَارَةٌ غَرِيبٌ وَالعَجُوزُ فِي عُمَان وَفِي الهِنْدِ حَتَّى أَصْبَحَ يَمْتَلِكَانِ بِالهِنْدِ وِكَالَةً كَبِيرَةً وَأَصْبَحَا مِنْ كِبَارِ التُّجَّارُ , ثُمَّ أَلْحَقَ القَهْوَةَ وَالشَّايَ وَالأَرْزَ , ظِلٌّ غَرِيبٌ خَمْسَةٌ عَشْرَةُ سَنَةً فِي الغُرْبَةِ دُونَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابٌ وَاحِدًا يُخْبِرُ فِيهُ أَبِيَّةً أَوْ أُمَّةٌ بِأَنَّهُ بِخَيْرٍ أَوْ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ , فَقَدْ سَافَرَ غَرِيبٌ وَعُمْرَةُ ثَمَانِيَةٍ عَشْرَةِ سَنَةٍ أَمَّا الآنَ يَبْلُغُ مِنْ العُمْرِ ثَلَاثَةُ وَثَلَاثُونَ سَنَةٍ , بَقِيَ غَرِيبٌ عَلَى المِينَاءِ وَهُوَ يُشَاهِدُ البَدَنَ يَمْخَرُ عُبَابُ البَحْرِ , بَدَأْتُ بَنَاتِ أَفْكَارِهِ تَتَصَارَعُ فِي رَأْسِهِ , أحساس خالجة لِلَحَظَاتٍ وَحَنِينِهِ إِلَى وطنة وَأُمَّةٍ , تُمَنِّى لَوْ إِنَّهُ قَفْزٌ عَلَى البَدَنِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَرَّكَ مِنْ المِينَاءِ , لَكُنَّ الوسم الغَائِرَ مِنْ الشَّيْخِ وَأَبِيهِ مَا زَالَ يِحِسّهُ نَدَيَا لَمْ يَنْدَمِلْ , يُحِسُّ بِإِنَّهُ لَمْ يتشافى رَغْمَ مُرُورٍ السِّنِينَ , مُجَرَّدٌ تَفْكِيرَهُ بِالأَمْرِ فَقَطْ يَنْزِفُ قلبة دَمًا وَيُحِسُّ عِنْدَمَا يَتَجَرَّعُ رَمَقَ لعابة كَأَنَّهُ يُسَلِّطُ مَرًّا أَوْ جمرَةٌ إِلَى حَنْجَرَتِهِ , قِفِى بِظَهْرِهِ مُتَّجِهًا إِلَى وِكَالَتِهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ قَائِلًا ( إِذَا رَجَعْتِ إِلَى وَطَنِيٍّ مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ بِالشَّيْخِ وَأَبِي ? كَيْفَ عساي أَنْ أَرُدَّ اِعْتِبَارِيٌّ .. كَيْفَ أَنْتَقِمُ لِكَرَامَتِي وَكِبْرِيَائِي ) , الكَثِيرُ وَالكَثِيرُ مِنْ التَّسَاؤُلَاتِ خَطَرْتَ عَلَى بَالِهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةَ , وَاهِمُ سُؤَالٌ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ ( كَيْفَ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى محبوبته الَّتِي اِشْتَاقَ إِلَيْهَا كَثِيرًا ) , رَجِّعْ الوِكَالَةَ فَرَى تَجَمْهُرٍ الكَثِيرُ مِنْ الهُنُودِ عَلَى بَابِ الوِكَالَةِ وَيَسْمَعُ عَوِيلُ اِبْنَةِ العَجُوزِ اِنْطَلَقَ يَرْكُضُ بِاِتِّجَاهِهَا يفوج الجُمُوعُ مِنْ النَّاسِ , وَإِذَا بِهِ يَرَى العَجُوزَ يَرْقُدُ فِي حِضْنِ اِبْنَتِهِ بِلَا حَرَاكٍ , لَقَدْ اِكْتَسَبَ غَرِيبٌ بَعْدَ كُلٍّ هَذِهِ السَّنَوَاتُ لُغَةً الهُنُودُ ، فَمَالَ بِرَأْسِهِ نَحْوَ الفَتَاةِ وَهُوَ يَجْلِسُ مُقَابِلَ مِنْهَا وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ العَجُوزِ ( كَيَّاهُ كرتاهيه ) , فَأَجَابَتْهُ ( مِرْآةَ بِأَبٍ مَرُّجَيَّاهُ ) , حَمَلَ غَرِيبٌ العَجُوزُ وَوَقَفَ بِهِ وَتَقَدَّمَ خُطْوَتَيْنِ إِلَى الأَمَامِ فَأَوْقَفَتْهُ الفَتَاةُ ( تَمَّ كَدَرُ جاتاهيه ) , فَرَدَ عَلَيْهَا (هوسبتل) ، فَقَالَتْ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى عَيْنَيْهِ ( بِالكُلِّ فَإِيْدَه نِيَّةٌ .. أَبِيهِ أَيُّكَ جَأَنْدَاهُ هَوِّكَيَّاهُ .. ميراه بَابُ خَتْمِ هيه .. بَسّ تشوردوه ) , عِلْمٌ إِنَّهَا لَا تُرِيدُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِلَى المُسْتَشْفَى لِأَنَّهُ فَارَقَ الحَيَاةَ مُنْذُ سَاعَةٍ مَضَتْ وَلَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ , فَقَالَ لَهَا (توه تشالوه تَمَارَةُ كركاه) , فَخْذَاهُ إِلَى المَنْزِلِ وَقَامَا بِأَدَاءٍ الوَاجِبِ فِي تَهْيِئَةِ جُثْمَانِهِ لِلحَرْقِ , هُنَا كَانَ غَرِيبٌ يَنْظُرُ إِلَى جُثْمَانِ العَجُوزِ وَهُوَ يَحْتَرِقُ وبداخلة تتقاذفة أَمْوَاجٌ وَأَعَاصِيرُ الحَنِينِ إِلَى الوَطَنِ أَكْثَرَ مِنْ السَّابِقِ , مَا راه مِنْ مشهد جَلَّلَ جَعْلَ رَغِبْتَهُ فِي العَوْدَةِ لِيَرَى أُمَّةَ ومحبوبته قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانَ , أَخْذٌ يَنْظُرُ إِلَى الفَتَاةِ اِبْنَةُ العَجُوزُ وَقَدْ اِحْتَدَّتْ وَبَلَغَتْ مِنْ العُمْرِ خَمْسَةُ وَعِشْرُونَ عَامًا , فَقَالَ فِي خَاطِرِهِ .. عَلَيْهَا أَنَّ تَكَمَّلَ مِشْوَارُ أَبِيهَا فَلَيْسَ لَهَا خِيَارًا أَخِرُّ غَيْرَهُ إِنَّ أَرَادَتْ أَنْ تَعِيشَ , فَهِيَ تَعْرِفُ عَنْ تِجَارَتِي وَأَبِيهَا كُلِّ شَيْءٍ , كَانَتْ الفَتَاةَ تَنْظُرُ إِلَى غَرِيبٍ وَهُوَ سُرْحَانٌ وَيَدُورُ فِي خَاطِرِهَا هِيَ الأُخْرَى حَدِيثٌ , فَلَمْ يَكُنْ هَمُّهَا التِّجَارَةِ وَالمَالُ الَّذِي سَوْفَ تَرِثُهُ مِنْ أَبِيهَا بَلْ كَانَ قَلْبُهَا يَنْبِضُ بِالحُبِّ جِهَةٌ غَرِيبٌ , لَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبُوحَ لَهُ بِمَكْنُونٍ مَا يَعْتَرِيهَا نَاحِيَتُهُ , وَبَعْدَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَوْتِ أَبِيهَا أَخْبَرَهَا غَرِيبٌ فِي نِيَّتِهِ إِلَى العَوْدَةِ لِبَلَدِهِ ووطنة , فَكَانَتْ كَلِمَاتٌ غَرِيبٌ تُنَزِّلُ إِلَى ذِهْنِهَا كالساعقة المُدَمِّرَةُ الَّتِي لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ , تَحَطَّمَتْ كُلُّ أَحْلَامِهَا وَاِنْكَسَرَ قَلْبُهَا, لَكِنَّ غَرِيبٌ لَمْ يَكُنْ يُعْلِمُ هَذَا أَبَدًا , فمحبوبته فِي الوَطَنِ هِيَ حَدِيثُ قلبة طِوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ , اِتَّفَقَا أَنْ تَكَوُّنٌ هِيَ المُمَوِّلُ لِغَرِيبٍ فِي بِلَادِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلَانِ هُوَ وَأَبِيهَا سَابِقًا , وَقَالَ لَهَا أَنَّ مَا تَبِيعُهُ فِي الهِنْدِ هُوَ لَهَا لَا يُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا , وَمَا تُرْسِلُهُ مِنْ شَحْنٍ يَدْخُلُ فِي حِسَابِهِ بَعْدَ اِسْتِقْطَاعِ الفَائِدَةِ وَتَشْغِيلٍ المَبْلَغَ الفَائِضَ , عَلَى أَنَّ يَنْمُو رَأْسُ المَالِ بَيْنَهِمْ , كَانَتْ الفَتَاةَ كُلَّ لَيْلَةٍ تَنْخَرِطُ فِي البُكَاءِ حَتَّى الصَّبَاحِ لَمْ تَعْرِفْ طِعْمٌ النَّوْمِ عِنْدَمَا أَخْبَرَهَا غَرِيبٌ بِذَلِكَ , كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ تُبَلِّلُ وِسَادَتُهَا , لَمْ تَتَوَقَّفْ مَحَاجِرُهَا الأَرْبَعَةُ عَنْ الإنهمال , فَقَدْ كَانَ غَرِيبٌ يَعْتَنِي بِهَا وَهِيَ فِي سِنٍّ العَاشِرَةُ مِنْ عُمْرِهَا عِنْدَمَا قَدْمٌ إِلَى الهِنْدِ كَمَا كَانَ يَعْتَنِي بِأَبِيهَا , وَبِسَبَبِ غَرِيبٍ اِزْدَهَرَتْ تِجَارَتُ أَبِيهَا وَرَاجَتْ فِي البِلَادِ وَالخَلِيجِ العَرَبِيُّ , هَكَذَا نَمَا الحُبُّ دَاخِلَهَا دُونَ أَنْ تَبُوحَ بِهِ , فَهِيَ اِمْرَأَةٌ هِنْدِيَّةٌ تَعِيشُ العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْمَحَ لِنَفْسِهَا أَنْ تُعَرِّضَ حُبُّهَا لِرَجُلٍ مَهْمَا بَلَغَ الأمر , فَهِيَ تَعَلَّمَ يَقِينًا إِذَا لَمْ يِحِسّ بِحُبِّهَا الآنَ لَنْ يُحِسُّ بِهِ بَعْدَ رَحِيلِهِ مُطْلَقًا , لَكِنَّ كِبْرِيَاءُ اِبْنَةِ بُومْبِي يأبا أَنْ يَبُوحَ بِمَكْنُونِهِ مَهْمَا بَلَغَ آلَمَ قَلْبَهَا وإعتصاره , فَلِهِمْ مَنْ العَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ مَا لِنَّا أَيْضًا , فَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ لِلمَرأَةِ وَعَلَيْهِ هُوَ مَنْ يَبْدَأُ فِي المكاشفة بِحُبِّهِ لَهَا , عَادُ النوخذة بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى الهِنْدِ , فَرَجَعَ غَرِيبٌ مَعَهُ إِلَى بِلَادِهِ , عِنْدَمَا اِعْتَلَّا غَرِيبٌ ظَهَرَ البَدَنَ , لَوْحٌ بِيَدِهِ مُوَدِّعَ الفَتَاةَ وهو مبتسم , لَكِنَّهَا لَوَّحَتْ لَهُ بِيَدِهَا وَالدُّمُوعِ تَنْهَمِرُ عِلَّى خَدَّيْهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ تَرْكُضُ مُنْكَسِرَةً ومبتعدة عَنْ المِينَاءِ , رأها غَرِيبٌ عَلَى حَالَتِهَا فَسَتَحْضُرُ المَشْهَدَ يَوْمَ سَفَرِهِ وَكَيْفَ كَانَتْ دُمُوعٌ أُمَّةً تَنْهَمِرُ كَسَيْلِ الحيمر عِنْدَ وَدَاعَةٍ , أَدْرَكَ حِينُهَا غَرِيبٌ وَبَعْدُ فَوَاتِ الأَوَانَ حُبَّ الفَتَاةِ لَهُ , لَكِنْ حُبُّ اِبْنَةِ الشَّيْخِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ لِيَرَى غَيْرَهَا أَمَامَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْمَحَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهَا فِي قلبة فَهِيَ كَانَتْ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فِي غُرْبَتِهِ , لَقَدْ كَانَ يُنَاجِي النُّجُومُ وَالأَقْمَارُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِاسْمِهَا , رَسَتْ البَدَنُ فِي مِينَاءِ صُوَرٍ وَخَرَجَ غَرِيبٌ مِنْهَا إِلَى أَرْضِ المِينَاءِ يَرْفَعُ رَأْسُهِ وَوَجْهُهُ فِي كِبْدِ السَّمَاءِ يَسْتَنْشِقُ نَسَمَاتِ الهَوَاءِ العَلِيلِ وَرِيحَ مَوْطِنِهِ الَّذِي غَابَ عَنْهُ سِنِينَ طَوِيلَةٍ , لَمْ يَعْرِفْهُ الكَثِيرُ عِنْدَمَا وَطِئَتْ رجلية أَرْضَ الوَطَنِ , لَمْ يَحْسُبْهُ النَّاسَ أَنَّ غَرِيبَ الفَقِيرَ الَّذِي سَافَرَ هَرَبًا مِنْ الشَّيْخِ وَسُخْرِيَّةِ أَهْلِ البَلَدِ سَوْفَ يَعُودُ مُرْتَدِيًا بَشَّتَا وَعَمَامَةٌ وَعُصِا خَيْزُرَانِ مطقمة بِالفِضَّةِ , لَمْ يَتَعَرَّفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِطْلَاقًا لَكِنْ النَّظْرَاتُ وَالهَمْسُ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ اِسْتَقْبَلُوا البَدَنَ والنوخذة كَالعَادَةِ يَتَهَامَسُونَ فِيمَا بَيْنَهِمْ عَنْ شَخْصِهِ , فَرَفَّعَ النُّهَامَ صَوْتُهُ بِأَمْرٍ مِنْ النوخذة أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيَقُولُ النُّهَامَ – التَّاجِرُ غَرِيبٌ وُلِدَ فَأَيِّلُ بِنْ عُبِيد وَصْلٌ لِبِلَادِهِ بَعْدَ غُرْبَةٍ دَامَتْ خَمْسْطَعْشَر سُنَّةٍ زَادَ الهَمْسُ وَاِعْتَلَتْ أَصْوَاتَ الجُمُوعُ الغفيرة
الجموع – غَرِيبٌ .. غَرِيبٌ … غَرِيبُ وَلَدٍ فَأَيِّلٌ مَا غَيْرَهُ .. ذَا غَرِيبِ بِيكُون مَا هُوَ ..
وَهَكَذَا صَدَمَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ بِمِينَاءِ صُوَرٍ , فنتشر الخُبَر فِي البِلَادِ بلَمِّحُ البَصَرُ وَكَأَنَّهُ السَّمُّ فِي أَحْشَاءِ الأَفْعَى , طَلَبَ غَرِيبٌ مِنْ النوخذة أَنْ يَجِدَ لَهُ بَيْتٍ يَقْضِي فِيهُ لِيَلْتَهِ حَتَّى يُدَبِّرَ أَمْرُهُ إِلَى الغَدِ , وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ غَرِيبَ لَمْ يَكُنْ جَاهِزًا بَعْدُ لِمُقَابَلَةِ أَبِيهِ وَأُمَّةٍ وَالشَّيْخِ ومحبوبته , أَوْجَدَ النوخذة سَكَنَ قَدِيمٍ جِدًّا عَلَى سَيْفِ البَحْرِ لِأَحَدِ أَبْنَاءِ سَعِيدَ الصاري , فَقَدْ وَرَثَةَ سَعِيدَ مِنْ أَبِيهِ , وَاِحْتِرَامًا وَتَقْدِيرَا للنوخذة وَأُفْقٌ سَعِيدٌ عَلَى أَنَّ يَسْكُنُ بِهِ غَرِيبٌ حَتَّى يَجِدُ لَهُ مَكَانٌ أُخَرَ يَأْوِيهُ , وَبَعْدَ سَاعَةٍ وَاحِدَةٌ مِنْ جُلُوسٍ غَرِيبٌ بِالبَيْتِ إِذَا بِأَلْبَابٍ يَطْرُقُ طُرُقَاتٍ مُتَلَاحِقَةً , تَعَجَّلَ غَرِيبٌ فِي النُّهُوضِ وَالتَّحَرُّكِ نَحْوَ البَابِ , فَتَحَ البَابَ وَإِذَا بِأُمِّهِ سعده تَقِفُ عَلَى عَتَبَةِ البَابِ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى اِبْنِهَا غَرِيبٌ وَدُمُوعِهَا تَبْدَأُ فِي الجَرَيَانِ مِنْ مِحْجَرِ عَيْنَيْهَا , اِحْتَضَنَهَا غَرِيبٌ بِقُوَّةٍ جَامِحَةٌ وَعَّيْنَاهُ تُدَمِّعَانِ وَهِيَ تُنَاجِيهُ وَتَهْمِسُ فِي أُذْنَيْهِ
سعده – اِشْتَقْتُ لَكَ كَثِيرًا يَا وَلَدِي غريب .. مْا حَنِّيت لأُمِّكَ يافلذة فُؤَادُ أُمِّكَ طِوَالَ هَذِهِ السِّنِينَ ?!!
غَرِيبٌ – ماه أَنَّ العَيْنَ لَا تُدَمِّعُ وَالقَلْبُ لَا يَحْزَنُ لِفِرَاقِكَ .. لَكِنْ الجُرْحُ كَانَ أَعْمَقَ ونزيفة أُشَنِّعُ وَأَرْتِقُ .. تَعَالَيْ ماه دْخُلِي
سعده – غَرِيبَةٌ يَا وَلَدِي ما سْأَلْتنِي عَنْ أبوك البر .. ما أشْتَقُت له ?
غَرِيبٌ – وَكَيْفَ للواحد يَشْتَاقَ لجُرْحَه .. أبوي ياأمي خلاني بَيْنَ السَّنَدَانِ وَالمِطْرَقَةُ .. حَتَّى أَخْتَلِطَ فِي وِجْدَانِيِّ مَعْنَى الحُبِّ وَالكَرَاهِيَةِ .. ما سرت متأكد مِنْ حُبِّي لَهُ أَوْ مِنْ كُرْهِي لَهُ .. رَغْمَ مَا سويت وَرَغْمَ مَا وَصَلْتَ له .. لَكِنَّي من يوم رَحَّلْتُ وَحَتَّى وقفتي أمامك وَأَشْرِعَتُي متكسرة .. ما حِسّ لَحْظَةً قَلِّبِي بِالحَنِينِ له
سعده – أغفر لَهُ بو سواه فيك يَاغَرِيبٌ
غَرِيبٌ – حَتَّى إذا غَفَرْتُ لَهُ .. جالك سُمْعَتِي بكية وَسَمٌّ زَالَ أَثَرَهَا مِنْ جَسَدٍ حَيٌّ أَوْ مِيت ? لَا يَا أُمٌّ غَرِيبٌ لَا .. حَتَّى لَوْ إنطفاء وَخَمَّدَ الأَلَمَ فِي مَكَانِهِ لَكُنَّ النَّدْبَةُ ما تروح البر
سعده – صَدَقَتُ يَا وَلَدِي .. خلا البيت .. كل رطن بالبيت مشتاق لك .. حتى القرنة اللي وَلَدَتْكِ فِيهَا مشتاقتنك
غَرِيبٌ – هذاك ما بيتي ماه ، هذاك بيت أبوي .. وما راح أرجع له .. ببني لي بيت يتكلم عنه كل اللي بالبلد
سعده – ما تريد تهجل علي فالبيت ياولدي ?
غَرِيبٌ – يكفيك أبوي يهجل عليك
سعده – ياليته يهجل علي ياولدي .. كان ما سار هذا حالي
غَرِيبٍ – معناته تخلا عنك مثل ما تخلا عني
سعده – نعم ياغريب كلامك صحيح أبوك تخلا عنا نحن الأثنين للأبد
غَرِيبٌ – أنتي موه تقصدي ماه ?!!
سعده – اِشْتَاقَ لمَوْلَاهِ سُبْحَانَهُ
نَزَلَتْ هَذِهِ الكَلِمَاتُ الأَخِيرَةُ عَلَى غَرِيبٍ كَالصَّاعِقَةِ عَلَى راسة فَخَرَ إِلَى الأَرْضِ متقعيا وَيُمْسِكُ بِكِلْتَا يَدَاهُ عَلَى رَأْسِهِ , ثُمَّ بَعْدَ بُرَهِهِ بَسِيطَةً بَدَأَ يَنْشِجُ ثُمَّ بكَاء
غَرِيبٍ – يالله مات أبوي بسببي ؟!!
سعده – نَعَمْ بِسَبَبِكَ أَنْتِ .. مثل ما سافرت أَنْتِ بِسَبَبِ أبوك .. كلكم سافرتوا وتركتوني وحدي أقاسي الغربة .. رَغْمَ وُجُودٍ أَهْلِيٌّ وَنَاسِي وَجَمَاعَتُي .. إِلَّا إِنَّنِي تَصَاحَبْتُ مَعَ الغُرْبَةِ وَكَأَنَّهَا رَفِيقَةُ دَرْبٍ طَوِيلَةٌ ..كلكم حبيتوا السفر وكرهتوا قربي .. مر زمان وأنا أكلم الجدران .. وتخيلك أنت وأبوك .. كُنْتُ أَنُوحُ وَالجِدَران الصُّمُّ تَسْمَعُنِي .. وَتَكْتُبُ بَوْحِي وَأَلَمَيْ
وَقَفَ غَرِيبٌ وَاِحْتَضَنَ أُمَّةً مَرَّةً ثَانِيَةً وَظَلَّ هُمَا الاِثْنَيْنَ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ متعانقان وَكِلَاهُمَا يَذْرِفُ الدُّمُوعَ عَلَى كَتْفٍ الأُخُرُ
غَرِيبٌ – سَامِحِينِي ماه .. طُولَ هَذِهِ السِّنِينَ فكرت نَفْسِي المَجْنِيَّ عَلَيْهِ وَأَنَا الجَانِي المُذْنِبُ. . أَيَّ مطر يَغْسِلُ براثن افعالي وأقوالي ? أَيَّ مَغْفِرَةٍ تُطَهِّرُ نَجَسِي ? وَيْلُي مِنْ غَضَبِكَ يَارَبِّي
اِسْتَمَرَّ غَرِيبَ فِي كَلِمَاتِهِ الَّتِي تَعْتَصِرُ قلبة حَتَّى الصَّبَاحِ , عِنْدَمَا صَقَّعَ الدِّيكُ عَلَى العَرِيشِ فِي فَنَاءِ البَيْتِ , كَانَ غَرِيبٌ يُغَطِّ فِي نومة عَلَى حَجَرِ أُمَّةٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ عَلَى جِدَارِ العَرِيشِ وَتَنْشُدُ
سعده – ليلوبه يوه ليلوبه .. ليلوبه يوه ليلوبه .. حَبِيبِي يوه ليلوبه .. حَبِيبِي رَاح وَثَنَّى .. وَعَلَى بَعِيدٌ تَعْنِي .. جَابٍ كُلُّ شِي بِلَوْنِهِ .. ليلوبه يوه ليلوبه .. ليلوبه يوه ليلوبه
تَدَاخُلٌ صَوَّتَ المُؤَذِّنُ عَلَى السَّاحِلِ مَعَ صَوْتِ سعده أُمٍّ غَرِيبٍ , فَتَوَقَّفْتُ عَنْ الإِنْشَادِ , وَوَضَعْتُ غَرِيبَ عَلَى رَمْلَةِ الفَنَاءِ وَخَرَجْتُ مِنْ البَيْتِ وَهِيَ تَمَشِّي نَحْوَ السَّاحِلِ حَتَّى وَصَلْتُ قُرْبَ البَحْرِ , أَخَذْتُ الأمَوْاجَ تَلَامُسُ أَنَامِلِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا , وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى البَحْرِ وَالقَمَرِ مَا زَالَ يَعْكِسُ أَشِعَّتَهُ الأَخِيرَةَ مُؤَذِّنٌ بِالرَّحِيلِ , وَدُمُوعِ عَيْنَيْهَا تَنْهَمِرُ
سعده – أَمِنْتُكِ زَوْجِي يَا بَحْرٌ وَخُنْتُ الأَمَانَةَ .. مَا جِيت اليَوْمَ اشتكيك لِلهِ أَوْ أُعَاتِبُكِ أَوْ أَلُومُكِ .. جِيت أَقُولُكَ أَنَّكَ مَا لَكَ أَمَانٌ .. تَأْخُذُ الأَبَ وَتَرْجِعُ الوَلَدَ .. وَيُمْكِنُ بَعْدُ تَأْخُذُ الاِبْنَ وَمَا تَرْجِعُهُ .. اُرْجُوكَ يَا بَحْرٌ لَا تَأْخُذُ غَرِيبَ مِثْلَ مَا أَخَذْتَ أَبُوهُ .. كسرَتُ مَجَادِيفِي وَقَطَّعَتْ أشِرَعِتي .. اِللِّي بَقَالِي مِنِّي أَتْرُكُهُ وَلَّا تِجِي صَوْبَهُ .. أَسْأَلُكَ بِالَّذِي خَلْقُكَ اِرْحَمْ ضُعْفِي وَقُوَّةَ حِيلَتِي
يَقْتَرِبُ غَرِيبٌ مِنْ أُمَّةٍ وَيَقِفُ بِالقُرْبِ مِنْهَا
غَرِيبٌ – يَعْنِي البَحْرُ هُوَ اِللِّي أَخَذَ أَبُوي موه الحُزْنَ وَالنَّدَمَ
سعده – أَبُوكَ رَكِبَ القَارِبَ فَيَوْمٌ عَاصِفٌ .. وَكَانَ مَهْمُومٌ وَحَزِينٌ على فراقك .. طَلْعُ البَحْرِ وَمَا قَدَرْتُ أَمْنَعُهُ .. صِحْتُ بِالشَّيْخِ وَوَلَدِهِ مُحَمَّدٌ .. لَكِنْ بِلَا فايدة .. قَالُوا خَلِّيهُ اِللِّي يُبَاهِ بيُحَصِّلُهُ .. هَذَا مَجْنُونٌ .. رَاح وَمَا رَجَعَ
غَرِيبٌ – (بِغَضَبٍ شَدِيدٍ) الشَّيْخُ .. الشَّيْخُ .. الشَّيْخُ .. أَنَا بأنْتَقِمُ مِنْ الشَّيْخِ
سعده – (تَضْحَكُ يُقَهْقِهُ مُطَوَّلَةٌ) الضَّرْبُ فِي المَيِّتِ حَرَامٌ يَاغَرِيبٌ
غَرِيبٌ – الشَّيْخُ مَات ?!!
سعده – حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ وَاحِدٌ يَا وَلَدِي غَرِيبٌ .. لَا يُحْدَى وَلَا يُبْدَى .. طَائِحٌ فَفِرَاشُهُ حَتَّى الذُّبَابَةُ مَا يَقْدِرُ يَكُشُّهَا عَنْ وَجْهِهِ
صَوْتِ إِقَامَةِ صَلَاةِ الفَجْرِ تَأْتِي مِنْ السَّاحِلِ مِنْ المَسْجِدِ الصَّغِيرُ المُجَاوِرُ لِلبَحْرِ سعده – سَيْرٌ صَلَّى يَا وَلَدِي عَسَى اللهَ يَرْحَمُكِ وَيُبَرِّدُ عَلَى فُؤَادِكَ يَتَوَجَّهُ غَرِيبٌ إِلَى المَسْجِدِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أُمَّةٍ وَمَا تَزَالُ وَاقِفَةٌ تَنْظُرُ إِلَى البَحْرِ .
خَرَجَ غَرِيبٌ يَتَمَشَّى مَعَ أُمَّةٍ إِلَى السُّوقِ وَهُوَ مُرْتَدِّي عَبَاءَةٍ لَا يَرْتَدِيهَا إِلَّا المَشَايِخِ فِي ذَاكَ الزَّمَانَ , اِسْتَغْرَبَ كَلَّا مِنْ راه , فَقَدْ عَلِمَ الجَمِيعُ مِنْ بِالبَلْدَةِ مُنْذُ الأَمْسِ عَنْ قُدُومٍ غَرِيبٌ , لَكِنَّ لَمْ يَتَصَوَّرْ الجَمِيعُ أَنَّ غَرِيبَ وَصْلٍ بِهِ الحَالُ أَنْ يَمْشِيَ فِي السُّوقِ بِهَذِهِ الكشخة وَلَا يَخْشَى لَوْمَةً لَائِمْ , عَلِمَ مُحَمَّدٌ اِبْنُ الشَّيْخُ عَنْ غَرِيبٍ وَأُمَّةٍ وَإِنَّهُمْ يَتَمَشَّوْنَ بِالسُّوقِ وَكَأَنَّهُمْ مَشَايِخُ أَوْ أَسْيَادُ , فَأَمَرَ فِي طَلَبِهِمْ فِي الحَالِ , وَعِنْدَ وُصُولِ رَسُولِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ إِلَى غَرِيبٌ وَأُمَّةٍ وَحَدَثُهُمْ عَنْ أَمَرِّ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ , هَمْسُ غَرِيبٍ فِي إِذْنِ أُمَّةٍ
غَرِيبٌ – الحِين عَادَ مُحَمَّدٌ الشَّيْخُ بَدَلَ أَبُوهُ .. موه جَايْ يُكْمِلُ الكيلة .. وَلَا بُو مقصرنه أَبُوهُ لَكِنَّ سعده رَدَّتْ عَلَيْهِ وَهِيَ تَهْمِسُ بِأُذْنِهِ
سعده – تُطَمِّنُ مُحَمَّدًا مَا مِثْلَ أَبُوهُ مُحَمَّدٌ رِجَالٍ عَاقِلٌ وَالنَّاسُ فِي البَلَدِ تُحِبُّهُ .. لَكِنْ مِنْ يَوْمٍ اِحْتَرَقَ بَيْتُهُمْ الأُولَى وَضَاعَ فِيهُ كُلُّ مَا يَمْلِكُوا مِنْ مَالٍ وَصُكُوكٍ .. قَلَتْ هَيْبَتُهُمْ وَسُمْعَتُهُمْ .. وَيَقُولُوا اللّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَدْيُونِينَ بِمَبَالِغِ حَالِ حَدٍّ مِنْ الشُّيُوخِ خَارِجَ البَلَدِ
هَزَّ غَرِيبٌ رَأَّسَهُ وَالاِبْتِسَامَةَ لَا تُفَارِقُ مَحَيَاهُ وَهُوَ يَنْظُرُ لإمة تارة وَلِرَسُولِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ تارة أُخْرَى , ثُمَّ وَجْهُ كلامة لِرَسُولِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ قَائِلًا
غَرِيبٌ – سِيرَ قَوْلٌ حَالَ شَيْخِكَ مُحَمَّدٌ .. يَقُولُكَ غَرِيبٌ يَوْمَ تَبَاهٍ سَأَلَ عَنْ بَيْتِهِ .. وَيَنْتَظِرُكَ تتقهوى عِنْدَهُ .. هَذَا أذا كُنْتَ تَبَاهٍ وَلَا هُوَ مَا يِجِيكَ إِلَّا إِذَا نَوَّبَهُ بَغَاكَ
تُفَاجِئُ الرَّجُلَ وَجَمِيعٌ مَنْ كَانُوا فِي السُّوقِ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى حَدِيثٍ غَرِيبٌ وَرَسُولِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ , لَقَدْ دَهَشَ الجَمِيعُ بِمَا سَمِعَ وَمَا رَأْىٌ , هَمْسَتُ مَرَّةً أُخْرَى سعده فِي أُذْنِ غَرِيبٍ
سعده – لَيْشْ سَوَّيْتَ كَذَاكَ يَا وَلَدِي ? تَوًّا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ يُزَعِّلُ وَمَا يُعْجِبُهُ
ضَحِكٌ غَرِيبٌ بقَهْقِهُ وَنَظَرَ إِلَى أُمِّهِ وَقَالَ
غَرِيبٌ – البَيْتُ اِحْتَرَقَ وَالصُّكُوكُ اِحْتَرَقْنَ مَعَاهُ .. مَا هَذَا اللي قُلْتِي لِي عَلَيْهِ أَوَّلُ .. إِذَا صَك العُبُودِيَّةُ أَحْتَرِقُ حَالَةُ حَالِ بَقِيَّةِ الصُّكُوكِ .. وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا أَبَوْهُ لَهُ حَقِّ عَلَي .. إِلَّا بِالكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ
اِسْتَمَرَّ غَرِيبٌ هُوَ وَأُمَّةٌ يَمْشِيَانِ فِي السُّوقِ وَكَأَنَّهُ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ , ثُمَّ وَقْفٌ وَرَفَعَ صَوْتُهُ عَالِيًا
غَرِيبٌ – مِنْ هُنَا الدّلَالُ بِهَذَا السُّوقُ أَبًا أَكْرَمَهُ
ظَهَرَ الدّلَالَ بَيْنَ الجُمُوعِ وَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتُهُ
الدّلَالَ – أَنَا هُنَا .. تَحْتَ أَمْرِكَ
غَرِيبٌ – أُرِيدُ مِنْكَ تَبْحَثَ لِي عَنْ دُكَّانٍ كَبِيرٌ مُلْحَقٌ بِمَخْزَنٍ كَبِيرٍ يَتَوَسَّطُ السُّوقَ .. وَأَدْفَعُ لِصَاحِبَةٍ اللي يباه مِنْ االفلوس , وبعطيك أنت اللي تباه
فَرَح الدّلَالَ أَيَّانَ فَرَح وَهَلَّلَ وَكَبَرٍّ وَقَالَ لِغَرِيبِ
الدّلَالِ – على أمرك وطوعك
غَابَ الدّلَالُ وَسْطَ الجُمُوعِ حَتَّى أَخْتَفِيَ عَنْ الأَنْظَارِ , وَأَكْمَلُ غَرِيبٍ وَأُمَّةِ الجَوْلَةِ بِالسُّوقِ .. خِيَمُ المَسَاءِ عَلَى غَرِيبٍ وَأُمَّةٍ وَهُمَا يَجْلِسَانِ عَلَى صَخْرَةٍ بِالقُرْبِ مِنِّ السَّاحِلِ يُشَاهِدَانِ غُرُوبَ الشَّمْسِ الرَّائِعَ , هُنَا سَأَلَ غَرِيبٌ أُمَّةَ
غَرِيبٍ – كَيْفَ كَاذِيَّةٍ ماه ?
سعده – كَأَذِيَّةٍ ?!! .. مَنْ كَاذِيَّةٍ يَا وَلَدِي ?!
غَرِيبٌ – كَاذِيَّةٍ ماه .. كَاذِيَّةٍ أَبَنْتُ الشَّيْخَ
سعده – ياويل قلبي عليك ياغريب .. أَبعده قلبك يحن لكاذية.. والغربة ما قدرت تنسيك كاذيو وأهل كاذية
غَرِيبٌ – وشي عطشان يَنْسَى الماي
سعده – لَا يَا وَلَدِي لَا .. أنا ما صدقة أنك رجعت لي بعد غياب طويل .. لَا تُعِيدُ المَاضِيَ وَتُنَبِّشُ فِيهُ .. قلبي ضعيف ما يقدر على فراقك مرة
غَرِيبٌ – اِطْمَئِنِّي يَاأُمٌّ غَرِيبٌ .. ما راح أفارقك مرة .. لَكِنَّي أَبْحَثُ عَنْ مَوْطِنِي الثَّانِي اللي فَارَقْتُهُ سِنَّيْنِ
سعده – ما بسك من التفكير في بنت الشيخ ياغريب ? ما هي سبب رحيلك وموت أبوك وفراق أمك
غَرِيبٍ – لا ماه لا .. ما كاذية السبب .. السبب الشيخ وأبوي
سعده – كاذية المسكينة متعذبة
غَرِيبٌ – ما فهمت قصدك ماه .. تكلمي ماه أيش سار فيها .. هي بخير ؟
وَحَكَتْ سعده لِغَرِيبٍ مَا حَدَثَ لكاذية بَعْدَ أَنْ عَلَمٌ أَبِيهَا وَأَخِيهَا بِحُبِّهَا لِغَرِيبٍ , بَعْدَ رَحِيلِ غَرِيبٍ عَنْ البِلَادِ بِيَوْمٍ وَاحِدٌ قَامَ الشَّيْخُ بِطَلَبِ اِبْنِ أَخِيهِ عَلَيَّ لِبَيْتِهِ وَأَمْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَبَنْتُهُ كَأَذِيَّةٍ , فَمَا كَانَ مِنْ عَلُيَّ إِلَّا القُبُولِ وَالخُضُوعِ لِرَغْبَةِ عَمَّةِ الشَّيْخِ , وَلَكِنَّ عَلَيَّ كَانَ لَهُ حُلْمٌ يُخَطِّطُ لَهُ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدًا يَعْلَمُ عَنْ حُلْمِهِ شَيْئًا , عَاشَ عَلَيَّ نَاقِمًا عَلَى ثَرْوَةِ عَمَّةِ الشَّيْخِ , وَكَانَ يَفْكِرُ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي كَيْفِيَّةِ الحُصُولِ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الثَّرْوَةِ , وَزَوَاجُهُ مَنَّ كَأَذِيَّةِ فَتْحٍ لَهُ طَرِيقَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ الحُلْمِ الَّذِي كَانَ يَسْعَى وَرَاءَهُ مُنْذُ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا , تَقْرُبُ عَلَي مَنْ عَمَّةُ أَكْثَرَ مِنْ السَّابِقِ وَأَخْذٌ يُقْنِعُهُ بِأَنَّهُ سَوْفَ يُحَوِّلُ تِجَارَتَهُ فِي البِلَادِ إِلَى تِجَارَةٍ يَتَحَدَّثُ عَنْهَا الجَمِيعُ وَتُصْبِحُ مُضْرِبٌ الأَمْثَالِ , وَكَانَ الشَّيْخُ يَثِقُ فِي عَلَي كَثِيرًا حَتَّى أَكْثَرَ مِنْ اِبْنِهِ مُحَمَّدٌ , فَلَمْ يَكُنْ لِ مُحَمَّدٌ الشَّأْنُ وَالمَشْوَرَةُ أَوْ التَّصَرُّفُ وَلَوْ بِالشَّيْءِ اليسيرِ فِي تِجَارَةِ أَبِيهِ بَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تُشَبِّهَهُ بِأَنْ يَكُونَ صَبِيَا عَامَلَ مَعَهُ فِي تِجَارَتِهِ لَا أَقِلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرُ , حَتَّى فِي يَوْمِ أُسُودٍ جَاءَ عَلَيَّ لِعَمِّهِ الشَّيْخِ وَأَخْبَرَهُ بِضَرُورَةِ تَوْكِيلِهِ تَوْكِيلًا رَسْمِيًّا يُتِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَةِ وَفْقَ مَا يَشَاءُ وَذَلِكَ بِغَرَضِ تَخْلِيصٍ وَتَوْقِيعِ الاِتِّفَاقِيَّاتِ وَتَسْلِيمٍ وَاِسْتِلَامِ البَضَائِعِ وَإِدَارَةِ بَيْتِ المشيخة , وَقَّعَ الشَّيْخُ الوِكَالَةَ المُطَلِّقَةَ لَ عَلَي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ , وَمِنْ ذَكَاءٍ وَدَهَاءٍ وَخُبْثٍ عَلَيَّ فَقَدْ كَانَ يُدَلِّعُ الشَّيْخُ وَيُرَيِّحُهُ كَثِيرًا فِي الفِعْلِ وَالقَوْلِ , حَتَّى بَدَأَ الشَّيْخُ يُغْمِضُ عَيْنِيَّةً عَنْ كُلِّ التَّعَامُلَاتِ وَعَنْ كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدُهِ فِي تِجَارَتِهِ , وَثَّقَتْهُ العَمْيَاءُ عَمَّتْ عَيْنَيْهُ وَسَمْعَهُ وَبَصِيرَتُهُ عَنْ كُلٍّ مَا يَدُورُ حَوْلَهُ , فَمَا كَانَ يَرَى أَمَامَهُ سِوَى مَلَأُكَ أَرْسَلَهُ لَهُ اللهُ لِيُسْعِدَهُ وَيَزِيدُهُ غِنًى فَوْقَ غِنَاهِ , وَفِي يَوْمٍ أُصْبِحُ شَاهِدًا لَنْ يَنْسَاهُ الجَمِيعُ مِنْ فِي البِلَادِ أَبَدًا , جَاءَتْ كَأَذِيَّةٍ وَهِيَ تَحْمِلُ رَبْطَةَ قُمَاشٍ صِرْتَ بِهَا مَلَابِسُهَا وَتَسِيرُ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ نَحْوَ وِكَالَةٍ اَبِيهَا بِالسُّوقِ ومدامعها الأَرْبَعَةُ تَهْطِلُ مِنْ عَيْنَيْهَا كَشَلَّالٍ جَارِفَ مِنْ هَضْبَةِ جَبَلِ عَالِي , مُنْكَسِرَةٌ مطاطاه الرَّأْسُ , ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا الوِكَالَةِ فَلِمَا رَأَوْهَا مِنْ بِالوِكَالَةِ تَسَمَّرُوا وَلَمْ يُنَبِّزْ أَحَدًا بِبِنْتِ شَفَتِهِ , ثُمَّ أَقْبَلُ نَحْوَهَا أَبِيهَا وَالاِسْتِغْرَابُ يَرْسُمُ قَامُوسًا لُغَوِيًّا عَرَبِيًّا عَلَى مَحَيَاهُ تَحْتَارُ مَعَهُ كُلُّ التَّعَابِيرِ , رَمَتْ كَأَذِيَّةِ نَفْسِهَا عَلَى صَدْرِ أَبِيهَا وَهِيَ تُجْهِشُ بِالبُكَاءِ وَأَبِيهَا الشَّيْخِ يَسْأَلَهَا مَاذَا بِكَ ?! , لَكِنْ الإِجَابَةُ تَجَمَّدَتْ فِي لِسَانِهَا وَمَا تَحْكِيهُ المَحَاجِرُ كَانَ أَدَقَّ وَأَوْفَى مَنْ كُلُّ الإِجَابَاتِ عَلَى تَسَاؤُلاتِ أَبِيهَا , اِقْتَرَبَ أَخُوهَا مُحَمَّدٌ مِنْهَا وَمَسْحٌ عَلَى رَأْسِهَا بِيَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ
مُحَمَّدً – عَلَيَّ مَدُّ إِيْدَه عَلَيْكَ ?
فَرَدّ الشَّيْخُ بِغَضَبٍ وَقُوَّةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ
الشَّيْخِ – رُوحٌ فَشُغْلُكَ أَنْتَ كَانَ مَا عِنْدَكَ شُغْلٌ .. عَلَي مَا يُمْكِنُ يَأْذِيهَا أَبَدًا .. هَذِهِ أَكِيد فِيهَا شَيْءٌ ثَانِي
اِنْصَرَفَ مُحَمَّدٌ رَاجَعَا لِلوَرَاءِ وَهُوَ يَهُزُّ رَأْسَهُ أَسِفَا عَلَى مَا بَدَرَ مِنْ أَبِيهِ نَحْوِهِ أَمَامَ العُمَّالِ بِالوِكَالَةِ , رَفَعْتُ كَأَذِيَّةِ رَأْسِهَا وَهِيَ تَنْظُرُ فِي عَيْنَيْ أَبِيهَا الشَّيْخِ
كذاية – بَاهٍ عَلَيَّ طَرَدَنِي خَارِجَ البَيْتَ وَرَمًّا بِمَلَابِسِي خَارِجَ البَابِ
الشَّيْخُ – عَلَيَّ .. !!
كَأَذِيَّةٍ – وَقَّالِي .. قَوْلِي حَالَ أبوك يَطْلَعُ مِنْ الوِكَالَةِ وَمِنْ البَيْتِ
الشَّيْخُ – اِطْلَعْ مِنْ الوِكَالَةِ وَالبَيْتِ !!? .. البَيْتَ ?!! .
الشيخ – أَنْتِ صَاحِيَةٌ يَا بِنْتِي? .. مُتَأَكِّدَةٌ أَنَّهُ عَلَيَّ قَالَ هَذَا الكَلَامُ ?!!
كَأَذِيَّةٍ – عَلَي يَا أَبُوي سَجَّلَ كُلُّ شَيْءٍ بِاسْمِهُ .. كُلٌّ مَا تَمْلِكُ أَصْبِحْ بِاسْمِهُ
رَجَعَ الشَّيْخُ لِلوَرَاءِ وَهُوَ يَنْظُرُ تارة نَحْوَ كَأَذِيَّةِ وتارة أُخْرَى نَحْوَ مُحَمَّدٍ , بَدَأَ خَدَّيْهُ فِي الاِهْتِزَازِ ثُمَّ جَسَدُهُ حَتَّى أَنْشَدَ وَجْهَهُ نَحْوَ الجَانِبِ الأَيْمَنُ وَسَقَطٍ مُغِمَّيْ عَلَيْهِ , مُنْذُ تِلْكَ اليَوْمَ وَالشَّيْخُ مَشْلُولٌ وَفِي عَوَزٍ وَفِقَرٍ بِسَبَبِ اِبْنِ أَخِيهِ عَلَيَّ , وَرَغْمَ ذَلِكَ أَهْلُ البِلَادِ وَقَفُوا مَعَهُ وَقْفَهُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَعَانُوهُ وَاِبْنَةَ مُحَمَّدٍ وَاِبْنَتُهِ كَأَذِيَّةٍ عَلَى مَا تِيَسِّرُ وَحَسَبَ المُسْتَطَاعِ , هَذِهِ كُلُّ القِصَّةِ الَّتِي حَدَثَتْ مِنْ يَوْمٍ رَحَّلَتْ حَتَّى عَوْدَتُكِ .
غَرِيبٌ – سُبْحَانَ اللهِ .. كَانَ قَلْبِي يَنْفَطِرُ مِنْ الظُّلْمُ اللي لَاقَيْتُهُ مِنْهُ وَمَنْ أبوي .. لَكِنَّ ما دعيت يَوْمً عَلَيْهِ .. رَغْمَ ذَلِكَ عَاقَبَهُ اللهَ باللي سواه فِي الأخرين مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ لَهُ فِي الدَّمِ وَالحَسْبِ وَالنِّسَبِ
سعده – هَذِهِ حَالُ الدُّنْيَا يَا وَلَدِي غَرِيبٌ .. يَوْمٌ تَضْحَكُ لَكَ وَعَشْرٌ تَبْكِيكِ
غَرِيبٌ – صَدَقَتُي ماه .. مَاهُ ?
سعده – نَعَمْ مضنوني
غَرِيبٌ – أَبًا أَشُوف كَاذِيَّةٍ وَأُكَلِّمُهَا
سعده – لَيْشْ يَا وَلَدِي تَبًّا تَفَتُّحُ جُرْحٍ يُمْكِنُ الحُرْمَةَ نسته مِنْ سِنِينَ ?!
غَرِيبٌ – الحُبُّ مَا يَنْسَى صَاحِبُهُ وَلَا يَنْسَى الحَبِيبُ حَبِيبَةُ حَتَّى لَوْ مَضَتْ دُهُورٌ .. الحُبُّ خَالِدُ مَدَى بَقَاءِ حَيَاةٍ المُحِبِّينَ
سعده – يَا وَلَدِي ..
غَرِيبٌ – (يُقَاطِعُهَا) .. بِدُونِ بَسّ ماه أَتَرُجَّاكَ .. أُرِيدُ أُكَحِّلَ عَيْنَي بِشَوْفَتِهَا وَأَرْجِعُ لِقَلْبِهَا البَسْمَةِ
سعده – أَنَا خَايِفَة يَا وَلَدِي تَتَكَرَّرُ المَأْسَاةُ وَتَتْرُكُنِي مَرَّةً ثَانِيَةً وَتُسَافِرُ .. يَاوَلَدِي غَرِيبٌ أَنْتِ غَيْرُ وَهْمِهِ غَيْرِ .. لَيْشْ مَا رَاضِي تَفْهَمُ يَاوَلَدِي
غَرِيبٌ – زَمَنُ العُبُودِيَّةِ وَالمَوَالِي اِنْتَهَى ماه .. كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى تُرَابِ هَذَا الوَطَنِ حُرٌّ .. كُلُّكُمْ مِنْ آَدَمَ وَآَدَمَ مِنْ تُرَابٍ .. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَأَعْجِمِي وَاِبْيَضَّ وَأَسْوَدُ إِلَّا بِالتَّقْوَى
سعده – مِسْكِينٌ يَاغَرِيبٌ بَعْدَكَ يَا وَلَدِي تَحْلُمُ تَتَزَوَّجُ عَرَبِيَّتُكَ ?!!
غَرِيبٌ – ( يزجرها بِقُوَّةٍ ) .. مَاهُ !! .. قُلْت لَكَ نَحْنُ أَحْرَارٌ .. وَإِذَا كَانَ فِيهُ صَكُّ عُبُودِيَّةِ فَاِعْتَقَدَ أَنَّهُ اِحْتَرَقَ فِي بَيْتِ الشَّيْخِ
سعده – وَالاِحْتِرَامُ يَا وَلَدِي بَعْدُ اِحْتَرَقَ مَعَاهُ ?!
غَرِيبٌ – لَا .. الاِحْتِرَامُ وَالتَّقْدِيرُ وَاجِبٌ وَبَاقِي فِينَّا بَقَاءُ الحَيَاةِ
سعده – بَاقِي بِالكَلَامِ وَلَا بِالفِعْلِ يَاوَلَدِي ? .. الاِحْتِرَامُ يَقُولُ إِنَّكَ مَا تَرْفَعُ نَفْسَكَ فِي مَقَامٍ مَا كَانَ فِي يَوْمٍ مِنْ الأَيَّامِ مَقَامُكَ .. وَالتَّقْدِيرُ يَقُولُ .. أَنَّكَ لَا تَصْغُرُ مِنْ قِيمَةِ نَاسِ رَبْوِكِ مِثْلَ وَلَدِهِمْ
غَرِيبٍ – مَاه يَكْفِي شِعَارَاتٍ كَاذِبَةً نَخْدَعُ فِيهَا نُفُوسِنَا وَعُقُولِنَا .. أَنْت لَيْشْ مَا رَاضِيَةُ تُصَدِّقِي أَنَّكِ أَصْبَحْتِ حُرَّةً طَلِيقَةً ? لَيْشْ تُهَوِّي العُبُودِيَّةُ
سعده – فِيهُ أَشْيَاءٌ كَثِيرَةً مَا رَاح نَتَوَافَقُ أَنَا وَأَنْتَ فِيهَا يَاوَلَدِي غَرِيبٌ .. وَلَا نتَفَقُ مَعَهَا , عَقْلِيٌّ وَعَقْلُكَ .. لَكِنَّ إِذَا تُرِيدُ تُجَرِّبُ تنكوي بِالنَّارِ مَرَّةً ثَانِيَةً مِثْلَ مَا أنكويت مِنْهَا أَوَّلُ .. أَنَا بِجَمْعِكَ بكاذية
غَرِيبٌ – اللهُ يُقَرِّبُ اِللِّي فِيهُ الخَيْرُ .. ( وَهُوَ يَنْظُرُ فِي عَيْنَيْهَا بِاِبْتِسَامَةٍ ) .. لَا تَخَافِي يَاأُمٌّ غَرِيبٌ .. لَا تَخَافِي .. وَلَدَكَ رِجَالٌ يَعْرِفُ اِيشْ يُسَوِّي
بِاللَّيْلِ وَبَعْدَ صَلَاةِ العَشَاءِ طَرَقَ عَلَى بَابِ البَيْتِ الَّذِي عَلَى السَّاحِلِ , وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةَ غَرِيبٌ وَأُمُّهِ يَتَنَاوَلُونَ العَشَاءَ , تَقَدَّمَ غَرِيبُ نَاحِيَةِ البَابِ وَفَتْحِ المِزْلَاجِ , وَهُنَا كَانَتْ المُفَاجِئَةَ , الشيخ مُحَمَّدٌ اِخْوِ كَأَذِيَّةٍ يَقِفُ أَمَامَ البَابِ
غَرِيبَ – (بِاِسْتِغْرَابٍ وَتَعَجُّبٍ) .. الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ ?!!
مُحَمَّدٌ – (بِاِبْتِسَامَةٍ وَثِقَةٍ). نَعَمْ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ .. (وَكَأَنَّهُ يَعْنِيهُ بِالكَلَامِ) .. لَكِنْ أَنْتَ مُتَأَكِّدٌ أَنَّي أَنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ ?
غَرِيبٌ – ( بِاِبْتِسَامَةٍ خُجُلًا ) .. طَبْعًا .. طَبْعًا بِلَا شَكٍّ .. وَمَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَيْبٌ وَلَدَ الشَّيْخُ يَزُورُ اِبْنَ الفَقِيرِ فِي بَيْتِهِمْ .. خَاصَّةً إِذَا كَانُوا مِنْ رَعَايَاهِ
مُحَمَّدٍ – لَا , مَا عِيبَ لِذَلِكَ أَنَا جِيتكَ لَمَّا مَا طُعْتَ تِجِي وَقَلَتْ للطارش اللي أَرْسَلْتَهُ .. خَلَّى الشَّيْخُ مُحَمَّدً هُوَ يِجِي دامة باغِينِيٌّ .. وَهَذَا أَنَا جِيت يَاغَرِيبٌ وَلَبَّيْتَكَ
غَرِيبٌ – تَفَضَّلْ أَدْخُلُ أَنَا وَأُمُّكَ سعده جَالِسِينَ نتعشا .. تَعَالَ تعشا مَعَنَّا
مُحَمَّدٌ – أُمُّي سعده ?!!
غَرِيبٌ – نَعَمْ أُمُّكَ سعده .. لَيْشْ مُسْتَغْرِبٌ ? .. وَلَا أُمُّي سعده مَا تَتَشَرَّفُ تَكُونُ أُمُّكِ مُحَمَّدٍ – (منصدم مِنْ تَصَرُّفٍ غَرِيبٌ وَبِتَلَعْثُمٍ) .. لَا أُمَّيْ أُمِّي وَام الجَمِيعُ
غَرِيبٌ – تَفَضُّلُ دَخْلٍ
يسيرٍ غَرِيبٌ بِالمُقَدَّمَةِ وَيَتْبَعُهُ مُحَمَّدٌ وَكَأَنَّهُمْ أَصْدِقَاءُ , حَتَّى وَصَلُوا بِالقُرْبِ مِنِّ سعده , وَهُنَا أَلْقَى مُحَمَّدٌ السَّلَامَ وَهَمَتْ سعده لِلوُقُوفِ وَتَقْبِيلِ يَدِ مُحَمَّدٍ اليَمَنِيِّ , لَكِنْ غَرِيبُ نُطْقٍ قَائِلًا
غَرِيبٌ – مَالَة دَاعِي تَوَقُّفِي ماه وَتَعَبِي نَفْسُكَ .. تَرَاهُ اِللِّي جَايْ مَا غَرِيبٌ .. هَذَا وَلَدُكِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ
بَقِيَ مُحَمَّدٌ مَذْهُولٌ يَنْظُرُ إِلَى غَرِيبٍ وَتَصَرُّفَاتِهِ , هُنَا وَقْفَتُ سعده وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ وَتَقُولُ
سعده – لَا يَاوَلَدِي غَرِيبُ العَيْنِ مَا تعلا عَلَى الحَاجِب
فَمَدَّ مُحَمَّدٌ يَدَيْهُ الاِثْنَتَيْنِ بِكُلِّ حُبٍّ وَاِحْتِرَامِ لسعده وَحَاوَلَ أَنْ يُسَاعِدَهَا فِي النُّهُوضِ وَقَالَ لَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى غَرِيبِ
مُحَمَّدٍ – كَيْفَ حَالُكَ مَاهُ سعده عَسَاكِ بِخَيْرٍ
غَرِيبٍ مُنْدَهِشٍ وَيَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ , وَمُحَمَّدٌ يَسْتَرْسِلُ فِي الحَدِيثِ وَعَيْنَيْهِ مُوَجِّهَةً نَحْوَ عَيْنَيْ غَرِيبٍ كَالسِّهَامِ مسلطة
مُحَمَّدٌ – تْهَنَّيْتِي يَرْجِعُهُ أَخُوي غَرِيبٍ مِنْ السَّفَرِ بَعْدَ غِيَابٍ كُلٌّ هَذِهِ السِّنِينَ مَاهُ سعده
سعده – (وَهِيَ تَبْكِي وَتَدُسُّ وَجْهَهَا بلِيُسَوِّهَا) .. الحَمْدُ لله يَاوَلَدِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ .. الحَمْدُ لله
مُحَمَّدٌ – (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى غَرِيبٍ وَيُوَجِّهُ كَلَامٌ لسعده لَكِنْ يَقْصِدُ بِهِ غَرِيبٌ) .. عَسَى بَسّ مَا يُكَسِّرُ غَرِيبَ قَلْبِكِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَيُسَافِرُ
غَرِيبٌ – (يَبْتَسِمُ وَهُوَ يَهُزُّ رَأْسَهُ وَبَدَأَ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الشَّيْخَ مُحَمَّدٌ يَفْهَمُهُ تَمَامًا) .. تُطَمِّنُ يَالشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مَاشِي رَجَعَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى .. تَعَالَ مَدَّ يُدِينُكَ يَكُونُ بِينَا عَيْشٍ وَمِلْحٍ مِثْلَ زَمَانٍ يَجْلِسُ مُحَمَّدٌ وَيَأْكُلُ مَعَ غَرِيبٍ وَأُمُّهِ , بَيْنَمَا يَنْظُرُ غَرِيبٌ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمُسْتَغْرِبٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُثِيرَ محمد ويغضبه فِي حِينِ مُحَمَّدٌ يَبْتَسِمُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهُ وَهُوَ يُحَدِّثُ وِجْدَانَهُ
مُحَمَّدٍ – (صَوَّتَ الضَّمِيرُ) .. هيه يَاغَرِيبٌ بَعْدَكِ مَا عَرَفْتُ مُحَمَّدً زَيْن .. أَنَا صَدْرَيْ أَوْسَعُ مِنْ صَدْرُكَ وَعَقْلِي أُرِيحَ مِنْ عَقْلِكَ بِكَثِيرٍ .. أَنَا حُمَّالُ الهُمُومِ وَالأَذِيَّةِ
سعده تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَهِيَ تَبْتَسِمُ فَيُبَادِلُهَا مُحَمَّدٌ الاِبْتِسَامَةُ , ثُمَّ تَمُدُّ يَدَهَا بِلُقَمِهِ وَتَضَعُهَا فِي فَأَه مُحَمَّدٌ , ثُمَّ تَأْخُذُ أُخْرَى وَتَضَعُهَا فِي فَأَه غَرِيبٌ وَعَّيْنَاهَا تُفِيضُ بِالدُّمُوعِ , يَأْخُذُ غَرِيبُ يَدِ أُمِّهِ وَيَقْبَلُهَا وَيَنْهَضُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ وَيَقْبَلُ رَأْسَهَا , يَلْتَفِتُ غَرِيبٌ نَحْوَ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ
غَرِيبٌ – (بِنَدَمٍ) .. سَامَحَنِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ سَامَحَنِي
مُحَمَّدٌ – قَوْلُ أَخَوَي مُحَمَّدٌ .. وَلَا نَسِيتُ
غَرِيبٌ – أَنَا مَا أَقْصِدُ أَحُطَّ مِنْ شَأْنِكَ لَكِنْ ..
مُحَمَّدٌ – (يقاطعة) .. أَنْتَ مَا حَطَّيْت مِنْ شَأْنِي يَاغَرِيبٌ .. أَنْتِ حَسَّسْتَنِي إِنَّي وَسْطَ أَهْلِي وَنَاسِي .. أَنْتِ رَجَعْتَنِي وعيشتني فِي جُو أَنَا فَقَدْتُهُ مِنْ زَمَانٍ .. جَوُّ العَائِلَةِ عَلَى صَحْنٍ وَاحِدٌ .. أَنْتَ اِللِّي سَامِحْنِي يَا أَخُوي غَرِيبٌ .. إِنَّي مَا قَدَرْتُ أَمْنَعُكَ مِنْ السَّفَرِ هَذِيك الأَيَّامَ .. وَلَا قُدْرَتَ أُسَوِّي شَيْءٌ مُمْكِنٌ يُسَاعِدُكَ
غَرِيبٌ – نَحْنُ وِلَادٌ اليَوْمَ .. وَخَلَّيْنَا نَنْسَى أَمْسِ
مُحَمَّدًا – (يَضْحَكُ) .. قَصْدُكَ نَحْنُ رِجَالٌ اليَوْمَ كَبُرْنَا عَلَى الأَوْلَادِ
وَمُرْ اللَّيْلَ وَاِنْقَضِّي وَأَشْرَقَتْ الشَّمْسُ وَهِيَ تُلَامِسُ البَحْرَ حِينَ تَخَرُّجٌ مِنْ جَوْفِهِ لتوقض النَّائِمُ مِنْ الأَمْسِ عَلَى رِمَالِ السَّاحِلِ الهَادِئِ .. بَيْنَمَا غَرِيبٌ يَمْشِي فِي السُّوقِ وَيُلْقِي التَّحِيَّةَ عَلَى هَذَا وَذَاكَ , إِذَا بِالدّلَالِ يَتَقَدَّمُ نَحْوُهُ
الدّلَالَ – لَقَدْ وَجَدْتُ لَكَ دُكَّانًا كَبِيرًا يُصْلِحُ أَنْ يَكُونَ وِكَالَةً لِمَوَادِّ غذائية إِذَا جَازَ لِي التَّعْبِيرُ
غَرِيبٌ – إِذَا فَلِنُلْقِيَ نَظَرَهُ عَلَى هَذَا الدُّكَّانِ أَيُّهَا الدّلَالَ النَّشِيطُ
ذَهَبًا الاِثْنَيْنَ وَهُمَا يَمُرَّانِ بَيْنَ المَحَلَّاتِ التِّجَارِيَّةَ القَدِيمَةَ الجَمِيلَةَ الَّتِي تَقَعُ عَلَى جَانِبَيْ مَمَرِّ السُّوقِ الوَاسِعَ قَلِيلًا , وَصَلَا إِلَى الدُّكَّانِ الَّذِي عَنَاهُ الدّلَالُ فِي كلامة الغَرِيبُ , وَعِنْدَمَا رأه غَرِيبٌ اِبْتَهَجَ وَهُوَ يِقُول
غَرِيبٌ – يَاسَلَامُ .. هَذَا اِللِّي كُنْتُ أَدُورُ عَلَيْهِ وراسمنه بِخَيَالِي
اِلْتَفَتُّ إِلَى الدّلَالِ وَهُوَ يَرْبِتُ عَلَى كَتِفِهِ مُبْتَسِمَ
غَرِيبٌ – لَكَ مِنِّي إِكْرَامِيَّةٌ لَمْ تَكُنَّ تَحْلُمُ بِهَا فِي حَيَاتِكَ اِبْتَسَمَ الدّلَالُ وَالفَرَحُ يَشُقُّ وَجْهَهُ مِنْ السَّعَادَةِ وَقَالَ وَهُوَ يَمُدُّ يَدَهُ يُصَافَحُ غَرِيبٌ بِحَرَارَةٍ
الدّلَالُ – جَزَاكَ اللهُ خَيْرٌ .. أَنْتَ كَرِيمٌ وَأَنَا أَسْتَأْهِلُ ضَحْكَ غَرِيبٍ مِنْ رَدِّ الدّلَالِ وَوَضْعِ يَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ وَهَزَّةٍ قَلِيلًا وَهُوَ يِقُول
غَرِيبٌ – تَسْتَأْهِلُ .. تَسْتَأْهِلُ .. وَالحِين أُرِيدُكَ تَجَمُّعٌ لِي عَمَّال يُنَظِّفُوا الدُّكَّانَ وَتُجِيبُ لِي نَجَّارَ
الدّلَالِ – تَمَّ طَالَ عُمْرُكِ .. رُبْعُ سَاعَةٌ بِالكَثِيرِ وَيَكُونُوا عِنْدَكِ
فِي هَذِهِ الأَثْنَاءُ وَغَرِيبٌ يَتَحَدَّثُ مَعَ الدّلَالِ مُرَّ بِالقُرْبِ مِنْهِمْ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ وَرَاهِمْ دَاخِلَ الدُّكَّانِ فَدَخْلٍ وَاِلْقَيْ عَلَيْهُمْ السَّلَامَ
مُحَمَّدٌ – السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحِمَهُ الله
غَرِيبٌ – وَعَلَيْكُمْ السَلَامُ وَرَحِمَهُ الله الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ
مُحَمَّدٌ – مَا شَاءَ اللهُ .. كَأَنَّكِ اِسْتَأْجَرْتَ الدُّكَّانَ أَخُوي غَرِيبٌ ?
غَرِيبٌ – قَوْلٌ اِشْتَرَيْتُ الدُّكَّانَ كُلَّهُ
مُحَمَّدٌ – مَبْرُوكٌ .. وَاِيشْ نَوْعُ التِّجَارَةِ اِللِّي تُحِبُّ تَبْدَأُ فِيهَا أَخَوَيْ غَرِيبٌ
غَرِيبٌ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى الدّلَالِ أَنْ يَذْهَبَ وَيَنْهَى العَمَلَ الَّذِي طَلَبَهُ مِنْهُ , تَحَرَّكَ الدّلَالُ وَخَرَّجَ مِنْ الدُّكَّانِ مُسَرِّعًا بَيْنَمَا شَدَّ غَرِيبٌ عَلَى يَدٍ الشَّيْخَ مُحَمَّدٌ وَأَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْ الطِّينِ عَلَى جَانِبِ مَدْخَلِ الدُّكَّانِ
غَرِيبٌ – أَخَوَيْ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ أَنَا سَمِعْتُ بِاِللِّي حَصَلَ بَيْنَ أَبُوكَ وَبَيْنَ وَلَدٍ عَمَّكَ عَلَيَّ نَاكِرٌ الجَمِيلُ .. وَعَرَفْتُ بِالحَرِيقِ اِللِّي اِلْتَهَمَ البَيْتُ كُلُّهُ .. وَأَيْضًا بِالوَضْعِ اِللِّي آلَتُ إِلَيْهُ حَالُكُمْ .. لِذَا أُرِيدُ أَعْرَضَ عَلَيْكَ المُسَاعَدَةُ وَأَتَمَنَّى أَنَّكِ تَقْبَلُهَا مِنِّي وَيَقْبَلُهَا الوَالِدُ الشَّيْخُ
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ – وَتُسَاعِدُنِي فِي اِيشْ يَاغَرِيبٌ يَاأَخُوي .. اِللِّي رَاح مَا يتعوض .. وَالخَسَارَةُ كَبِيرَةٌ مَا تَنْعَدِ وَلَا تُحْصَى
غَرِيبٌ – أَنْتَ لَا تَحَاتِّي بِشَيْءٍ .. أَنَا مُسْتَعِدٌّ أُخَلِّيكَ تَوَقُّفٌ عَلَى رَجُلَيْكَ مِنْ أَوَّلِ وَجَدِيدِ
مُحَمَّدٍ – (يَضْحَكُ غَيْرَ مُصَدَّقٍ مَا يَقُولُهُ غَرِيبٌ) .. أَنْتَ يَاغَرِيبٌ !!. وَكَيْفَ ?!
غَرِيبٌ – كَيْفَ هَذِهِ شَغْلَتِي أَنَا ? أَنْتَ بَسّ أُرِيدُكَ تَكُونُ شَرَّيْكِ مَعَي فِي الدُّكَّانِ وَالبَضَائِعِ
مُحَمَّدٌ – شَرِيكٌ !!? .. شَرَّيْكِ بِاِيشْ يَاغَرِيبٌ يَاأَخُوي ?.. أَنَا اِللِّي أَمْتَلِكُهُ قُوتٌ يَوْمِيٌّ وَيَوْمٌ أَبَوِيٌّ وَأُخْتِي كَاذِيَّةِ
غَرِيبٍ – شَرِيكٌ بِأَسَمُكَ وَسُمْعَتُكِ الطَّيِّبَةُ بَيْنَ أَهَّلَ البَلَدُ .. يَوْمٌ المنِى لَمَّا أُشَارِكُ الشَّيْخَ مُحَمَّدٌ .. شَيْخَ البَلَدِ كُلَّهَا
يَقِفُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ مِنْ مَكَانِهِ وَهُوَ غَاضِبٌ وَالدِّمَاءُ بَدَأَتْ تَتَجَمَّعُ عَلَى صَفْحَةِ وَجْهِهِ الأَبْيَضِ
مُحَمَّدٍ – حَتَّى أَنْتَ يَا غَرِيبُ جَايْ تَنْتَقِمُ مِثْلَ غَيْرِكَ
غَرِيبٌ – أفَا يامحمد .. لَيْشْ أَنْتَقِمُ يَا أَخُوي مَنِّكَ ? .. أَنْتَ ماسويت بِي شَيْءُ
مُحَمَّدٍ – يُمْكِنُ مَا نَسِيتُ اِللِّي سَوَّاهُ فِيكَ أَبُوي .. وَأَنْتِ مَا سَافَرْتَ مِنْ البَلَدِ إِلَّا بِسَبَبٍ اِللِّي سِوَاهُ فِيكَ أَبُوي .. وَالمُعَامَلَةُ الشينه اِللِّي عَامَلَكَ بِهَا
غَرِيبٌ – أَنَا مَا نَسِيتُ فَهَذَا صَحِيحٌ .. وَكُنْتُ جَايْ وَدَاخِلَيْ بَوَادِرِ اِنْتِقَامٍ .. لَكِنَّ بَعْدَ مَا عَرَفْتُ اِللِّي حُصِّلَ لَأَبَوْكَ وَلَكَ وَلِأُخْتِكَ .. قُلْتُ فِي نَفْسِيَّ الْطَعَنَّ فِي المَيِّتِ حَرَامً . وَفَكَّرْتُ إِنَّي أُثَبِّتُ لَأَبَوْكَ مَنْ هُوَ غَرِيبٌ اِللِّي أَهَانَ كَرَامَتَهُ قُدَّامِ خَلْقِ اللهِ
مُحَمَّدٌ – إِذَا مُسَاعَدَتُكَ لِي مَا هِيَ إِلَّا شَفَقِهِ .. وَأَنَا مَا أَقْبَلُهَا عَلَى نَفْسِيَّ وَلَا عَلَى أَهْلِي أَبَدًا
غَرِيبٌ – وَلَيْشْ مَا تَحْسُبُهَا رُجُولَةٌ وَشَهَامَةٌ مِنِّي .. أَنَا مُسْتَعِدٌّ اِرْجِعْ لَكَ مَالَكِ مِنْ عَلُيَّ وَهُوَ رَاضِي وَيَضْحَكُ مِنْ السِّنِّ لَسْنَ
مُحَمَّدً – (يَضْحَكُ بقَهْقِهُ) .. أَنْتَ رَجُلٌ حَالِمٌ يَاغَرِيبٌ .. بَعْدَكِ مَا تَعْرِفُ مِنْ عَلُيَّ وَلَدُ عَمِّي .. هَذَا الشَّيْطَانُ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ
غَرِيبٌ – أَنْتَ اِقْبَلْ مُشَارَكَتُي .. وَاِعْتَبَرَ وَعِدِي بِمَثَابَةِ عَهْدَ يَلْزَمُنِي أُعْطِيكَ كُلَّ مَا أَمْلِكُ إِذَا مَا قَدَرْتُ أَرْجِعُ لَكَ مَالكِ مِنْ عَلُيَّ .. موه قِلَّتُ ؟
مَدٌّ غَرِيبُ يَدِهِ اليُمْنَى لَ مُحَمَّدٌ حَتَّى يصافحة , فَنَظَرَ إِلَيْهُ مُحَمَّدٌ مُحْدِقًا وَكَأَنَّهُ سِهَامُ عَيْنَيْهِ تَرَسُّلِ كُلُّ التَّسَاؤُلِ وَيَقُولُ
محمد – ياترى تقدر توفي بوعدك
ثُمَّ مَدَّ مُحَمَّدًا يَدُهُ وَصَافَحَ غَرِيبٌ , وَبَعْدَهَا غَادِرْ الدُّكَّانُ دُونَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِشَيْءٍ , فَقَطْ رُحَّلٌ وَهُوَ يُعَاوِدُ النَّظَرَ إِلَى غَرِيبٍ بِاِسْتِغْرَابٍ , بَقِيَ غَرِيبٍ فِي الدُّكَّانِ وَهُوَ مُبْتَهِجٌ وَكَأَنَّهُ حَازَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا , مُوَافَقَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ عَلَى مُشَارَكَتِهِ التِّجَارَةِ خُطْوَةً قَوِيَّةً تَرْفَعُهُ فِي البِلَادِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ القَاصِي وَالدَانِي , وَسَوْفَ يَرْتَبِطُ اِسْمُهُ بِاسْمِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ , وَهَذِهِ المَرَّةَ لَيْسَ كَتَابِعٍ أَوْ مُسْتَعْبَدٌ إِنَّمَا كَشَرَّيْكَ وَرُبَّ عَمَلٍ , فَقَدْ أَصْبَحَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بِمُوَافَقَتِهِ مُشَارَكَةِ غَرِيبٍ بِمَثَابَةِ الإِشَارَةِ عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ لَدَى غَرِيبٍ وَلَيْسَ شَرَّيْكِ , هَذَا مَا لَمْ يِفْهَمهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ أَوْ غَابَ عَنْ ذِهْنِهِ.
اِشْتَرَى غَرِيبُ أَرْضٍ كَبِيرَةٍ عَلَى السَّاحِلِ وَأَمَرَ مُقَاوِلٌ يَبْدَأُ بِنَاءُ فِيلَّا شَبِيهُهِ بِقَصْرٍ صَغِيرٍ جَمِيلٍ يُطِلُّ عَلَى البَحْرِ يَشْبَهُ فِي تفاصيلة قَصَّرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٌ الَّذِي أغتصبة عَلَي اِبْنِ أَخِيهِ مَنِّهُ , وَذَلِكَ لِأَنَّ غَرِيبَ مَا زَالَ يَعِيشُ وَيَشْعُرُ بعقدة النَّقْصَ الَّتِي وَلَدَهَا الشَّيْخُ وَأَبِيهِ وَالمُجْتَمَعِ فِي دَاخِلِهُ , رَغْمَ حُرِّيَّتِهِ وَمَالُهِ إِلَّا أَنَّهُ مَا زَالَ يَشْعُرُ بِالعُبُودِيَّةِ فِي ذَاتِهِ المُكَبَّلَةُ بِأَحْدَاثِ المَاضِي الأَلِيمِ , كَمَا جَهَّزَ الدُّكَّانُ وحولة إِلَى وِكَالَةٍ يَسْتَقْبِلُ فِيهَا الحُمُولَةَ الَّتِي تَبْعَثُهَا لَهُ شَرِيكَتُهُ الفَتَاةُ اِبْنَةُ العَجُوزُ فِي الهِنْدِ ( النارجيل وَالتِّينُ المُجَفَّفُ وَتَعْبِئَتُهِ فِي جواني وَإِرْسَالُهُ إِلَى عُمَانَ , وَالبَهَارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا , وَالقَهْوَةُ وَالشَّايُ وَالأَرْزُ ) , لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ النَّاسُ بِأَنَّ التِّجَارَةُ الَّتِي رَاجَتْ عَنْ التَّاجِرِ الَّذِي بِعُثِّهَا لِيَبِيعَهَا لَهُ النوخذة هِيَ تِجَارَةٌ غَرِيبٌ , وَهَكَذَا اِمْتَدَّ صِيتُ تِجَارَةِ غَرِيبٍ وَشَرِيكَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ حَتَّى يَصِلُ إِلَى الوِلَايَاتِ الأُخْرَى الأَمَرُّ الَّذِي جَعَلَ مِنْ عَلُيَّ اِبْنُ عَمِّ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ صَيْدٍ جَدِيدٌ يَسْلُبُهُ مَالَة .
جَاءَ عَلَيَّ فِي صَبَاحَ أَحَدِ الأَيَّامَ إِلَى السُّوقِ وَهُوَ فِي أَبْهَا حُلَّةٌ وَكَأَنَّهُ شَأْهُ بنْدْر التُّجَّارُ , مُتَأَنِّقٌ يَمْشِي بِخُطُوَاتٍ وَاثِقَةٍ شَامِخَةٍ حَتَّى وَصْلٍ إِلَى وِكَالَةِ غَرِيبٍ وَاِنْخَرَطَ دَاخِلَهَا وَهُنَا كَانَتْ المُفَاجَأَةُ لَ عَلَيَّ عِنْدَمَا شَاهَدَ غَرِيبٌ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ الوِكَالَةِ , فَهُوَ سَمِعَ أَنَّ صَاحِبَ الوِكَالَةِ اِسْمُهِ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَظُنَّ لَحْظَةً أَنَّ غَرِيبَ الَّذِي سَمِعَ بِهِ هُوَ غَرِيبُ الَّذِي كَانَ مُسْتَعْبَدًا خَادِمَا عِنْدَ عَمَّةِ الشَّيْخِ أَبُو مُحَمَّدٌ , أَخَذَ عَلَيَّ يَنْظُرُ إِلَى غَرِيبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الكُرْسِيِّ غَيْرُ مستوعب مَا تَرَاهُ عَيْنَاهُ , بَيْنَمَا غَرِيبٌ يُقَلِّبُ الدَّفَاتِرَ أمامة وَيُرَاجِعُ مَا بِهَا مِنْ حِسَابَاتٍ , لَمْ يَلْحَظْ دُخُولَ عَلَي وَلَمْ يُدْرِكْ وَجَوْدَةٌ , تَقَدَّمَ عَلَيَّ بِالقُرْبِ مِنِّ الطَّاوِلَةِ الَّتِي يَجْلِسُ خَلْفَهَا غَرِيبٌ وَأَلْقَى التَّحِيَّةَ وَهُنَا رَفْعٌ غَرِيبُ رَأْسِهِ لِيَرَى عَلَيَّ يَقِفُ أَمَامَهُ , ظِلٌّ غَرِيبٌ يَنْظُرُ إِلَى علي وَيَدُورُ فِي ذِهْنِهِ حِوَارٍ
غَرِيبٍ – (صَوَّتَ الذِّهْنُ) .. أَخِيرًا جِيت بِرِجْلَيْكَ ياعلي .. أَهْلًا وَسَهَلا بِالغَالِي ( ثُمَّ يَضْحَكُ فِي ذِهْنِهِ أَيْضًا )
عَلِيًّ – (صَوَّتَ الذِّهْنُ) .. غَرِيبٌ أَنْتِ مَا غَيْرَكَ .. كَبِرِّ رَأْسِكَ !!? .. الحِين أَنْتِ سُرَّتُ تَاجِرٌ وَتُنَاطِحُ عرابتك ?!! .. مَا عَلَيْهِ الصَّبْرُ زَيْن وَأَنَا بِعُرْفٍ كَيْفَ أَنْزَلَ هَذَا الرَّأْسَ
ثُمَّ تَحَدَّثَ غَرِيبَ بَعْدَ صَمْتٍ دَامٍ فَتْرَةٍ كَلَّا مِنْهُمَا يَنْظُرُ للأخر وَيَتَوَعَّدُهُ
غَرِيبٌ – يَأْهُلَا وَسَهَّلَا بِالأَخِ عَلِيًّ .. (يُشِيرُ إِلَيْهُ بِأَنْ يَجْلِسَ عَلَى الكُرْسِيِّ أَمَامَ الطَّاوِلَةِ) .. تَفَضُّلٌ جَلَسَ
عَلَي – (وَهُوَ يَجْلِسُ عَلَى الكُرْسِيِّ وَيُوَزِّعُ نَظَرَهُ بِالوِكَالَةِ) .. هَلَا بِيكَ يَاغَرِيبٌ .. وَسَرَّتْ تَاجِرَ عُودٍ وَمُنَافِسَ قَوِي بِالسُّوقِ .. مِنْ وَيْن لَكَ كُلٌّ هَذَا يَا غَرِيبٌ
غَرِيبٌ – مِنْ عَرَقِ جَبِينِي ياعلي .. مَا سَرَقْتُهُ مِثْلَ مَا سَرَقَ غَيْرَي أَقْرَبُ النَّاسُ لَهُ
عَلَيَّ – أَنْتِ تَقْصِدُ اِيشْ يَا غَرِيبٌ ?!!
غَرِيبٌ – أَنَا مَا أَقْصِدُ شَيْءَ أَبْدَأُ .. بَسّ لِكُلِّ سُؤَالِ جَوَابٍ .. وَلِكُلٍّ فعل رَدُّ فِعْلٍ
عَلَيَّ – عُمُومًا أَنَا جِيت زايرنك وباغي أَتَعَرَّفُ بِكَ .. مَا ضنيت أَنَّكَ أَنْتَ غَرِيبُ الَّذِي كَانَ (يَتَوَقَّفُ وَلَا يُكْمِلُ حَدِيثَهُ)
غَرِيبٌ – لَيْشْ وَقْفَتُ مَا كَمَّلْتُ كَلَامَكَ ياعلي .. تُقْصَدُ الَّذِي كَانَ خَادِمٌ فِي بَيْتِ عَمِّكَ الشَّيْخِ أَبُو مُحَمَّدٌ مَا كَذَاكَ ?
عَلَيَّ – أَنَا مَا أَقْصِدُ أَقُولَ كَذَا لَكِنْ أَنْتَ بِرُوحِكَ قُلْت
غَرِيبٌ – وَأَنَا رَاح أَتَقَبَّلُهَا مِنْكَ لِأَنَّكَ فِي مَكَانِي وَوِكَالَتُي .. تُفَضِّلُ عَلَيَّ بَغَيْت مِنِّي شَيْءٌ?
عَلَيَّ – نَعَمْ بَغَيْت نَتَعَاوَنُ فِي التِّجَارَةِ .. تَشُلْنِي وَأَشُلْكِ .. تَعْرِفُ السُّوقَ فِيهُ هوامير .. وَإِذَا مَا تَعَرَّفَ تَسْبَحُ مَعَهُمْ وَلَا تُجَارِيهُمْ عَلَى الأَقَلِّ تَغْرَقُ
غَرِيبٌ – كَلَامٌ جَمِيلٌ .. وَالمَطْلُوبُ ياعلي ؟
عَلَيَّ – مِثْلَ مَا قُلْتَ نَتَعَاوَنُ
غَرِيبٌ – وَكَيْفَ تَبَاهٍ يَكُونُ التّعَاوُن بِينَا
عَلَيَّ – تُمَوِّلُنِي وَأُمَوِّلُكَ .. البِضَاعَةُ اِللِّي مَا عِنْدَكَ أَمَدُكَ بِهَا .. وَالبِضَاعَةُ اِللِّي مَا عُنُدِي تُمِدُّنِي أَنْتَ بِهَا .. موه قُلْت
غَرِيبٌ – مَا عِنْدَي مَانَع بَسّ بِشُرُوطِي أَنَا .. غَيَّرَ عَنْ كَذَا مَا أَقْبَلَ
عَلَي – (يُكَلِّمُ ضَمِيرُهُ) .. وَاللهِ وَسَارِّ لَكَ كَلِمَةً يَا غَرِيبٌ .. وَأَصْبَحَتْ تَتَشَرَّطُ .. الظَّاهِرُ السَّنَوَاتِ المَاضِيَةُ نستك البَوَاكِيرُ اِللِّي كَانَتْ تَلْعَبُ بِظَهْرِكَ
غَرِيبٌ – (وَهُوَ يُلَاحِظُ شُرُودَ عَلَيَّ) أَشَوِّفكَ سُرْحَانَ ياعلي ?
عَلَيَّ – لَا , مَا فِيهِ شَيْءٌ .. تَمَام اِللِّي تِشُوفهُ أَنَا مُوَافِقٌ عَلَيْهِ
غَرِيبٌ – (مُسْتَغْرِبٌ) .. كَذَاكَ مُوَافِقَ عَلَيْهِ .. مَنَّاكِ وَالدَّرْبَ ? .. مَا تُرِيدُ تَعَرُّفَ الشُّرُوطِ
عَلَيَّ – لَا أَكِيد بِعُرْفِهَا .. بَسّ أَقُولُ مَا عِنْدَي مَانَع مَبْدَئِيًّا مِنْ التَّعَاوُنِ مَعَاكَ
غَرِيبٌ – طَيِّب اِيشْ رَأْيُكَ اليَوْمَ بِاللَّيْلِ تِجِي تُرْمُسٌ مَعَي عَلَى السَّاحِلِ .. هُنَاكَ أَنَا بِجَيْبِ كُلِّ الأَوْرَاقِ وَبِيكُونْ فِيهُ كَاتِبٌ يَكْتُبُ بِينَا الاِتِّفَاقِيَّةِ
عَلَيَّ – تَمَّ (يَقِفُ مِنْ عَلَى الكُرْسِيِّ) .. يَالله أَنَا بِسَيْرٍ
غَرِيبٍ – زَيْن. مُلْتَقَانَا بِاللَّيْلِ
يَخْرُجُ عَلَي مِنْ الوِكَالَةِ وَيَبْقَى غَرِيبٌ يَنْظُرُ إِلَيْهُ وَهُوَ مُبْتَسِمٌ , بَيْنَمَا يَخْرُجُ مُحَمَّدٌ مِنْ دَاخِلِ الوِكَالَةِ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَمِعُ إِلَى الحِوَارِ الَّذِي دَارَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَغَرِيبِ
مُحَمَّدٍ – وَالحِين اِيشْ تُسَوِّي مَعَاهُ بِاللَّيْلِ ?
غَرِيبٌ – بُقُولُكِ بِالخُطَّةِ اِللِّي رَسَمَتْهَا
يُصَافِحُ الشَّيْخُ مُحَمَّدً غَرِيبٌ بِحَرَارَةٍ وَهُمَا مُبْتَسِمَانِ , بَيْنَمَا غَرِيبٌ يَمْسَحُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَكَأَنَّهُ يَتَوَعَّدُ عَلَيَّ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى خَارِجِ الوِكَالَةِ , ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَيِقُول لَهُ بِكُلِّ ثِقَةٍ
غَرِيبٌ – أَنَا عِنْدَ وَعْدِي لَكَ يَرْجِعُ لَكَ فُلُوسَكِ
يَبْتَسِمُ مُحَمَّدٌ ويخاشم غَرِيبٌ بِالأَنْفِ.
يُخَرِّجُ مَجْمُوعَةٌ مِنْ المُصَلِّينَ مِنْ مَسْجِدِ السَّاحِلِ بَعْدُ إداء صَلَاةُ العَشَاءِ الأُخُرُ , كَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ المُصَلِّينَ غَرِيبٌ , فِي النَّاحِيَةِ المُقَابِلَةُ لِلمَسْجِدِ عَلَى السَّاحِلِ يُشَاهِدُ غَرِيبَ وُقُوفِ اِمْرَأَةٍ يُدَاعِبُ نَسِيمُ البَحْرَ عَبَاءَتُهَا وَلِيُسَوِّهَا وَهِيَ تَسْكُنُ تَحْتَ ضَوْءِ القَمَرِ , يَتَقَدَّمُ غَرِيبُ بتجاه المَرْأَةُ فَيَقِفُ بُرَهَهِ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَأَنَّهُ شَمَّ عِطْرَهَا أَوْ رِيحَ جَسَدِهَا عَبْرَ نَسَمَاتٍ الهَوَاءُ القَادِمَةُ نَحْوُهُ , فَيَنْظُرُ نَحْوُهَا وَعَّيْنَاهُ بَدَأَتْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ , تُقَدِّمُ نَحْوَهَا شَيْئًا فَشَيْءٌ بِخُطًى مُثْقَلَةٍ حَبّ وَحَنِينُ وشتياق وَلُوعَةٌ حَتَّى وَقَفَ خَلْفَهَا تَمَامًا , وَهَمَسَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ يَكَادُ يَكُونُ مَخْنُوقٌ مِنْ العِبْرَةِ
غَرِيبٌ – كَأَذِيَّةٍ !!؟
وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى البَحْرِ وَعَّيْنَاهَا تَفِيضُ بِالدَّمْعِ وَتَنْشِجُ , تَلْتَفِتُ بِهُدُوءٍ وَهِيَ تُدِيرُ جَسَدَهَا لِلخَلْفِ حَتَّى تَصَافُحِ عَيْنَيْهَا عَيْنِي غَرِيبٌ
كَاذِيَّةٍ – ( بِصَوْتِ متحشرج بِهِ بُحَّةُ عَتَبٍ وَحَرَمَانِ ) .. يَاه الغُرْبَةُ غَيَّرَتْ مَلَامِحُكِ يَاغَرِيبٌ
غَرِيبٌ – الغُرْبَةُ عَلَّمَتْنِي مَا أَنْسَاكَ .. الغُرْبَةُ عَلَّمَتْنِي أَنَّكَ وَطَنٌ وَيَسْكُنَّ بِدَاخِلِيَّ .. أَحْفَظُهُ طُولَ مَا أَنَا حَيَّ
كَاذِيَّةٍ – ياليتني أَقْدَرُ أُصَدِّقُ كَلَامَك ؟!!
غَرِيبٌ – مَتَى كُنْتُ أَكْذِبُ عَلَيْكَ ? عَلَشَانْ مَا تُصَدِّقِينِي هَذِهِ المَرَّةَ ?!!
كَاذِيَّةٍ – يَا غَرِيبٌ أَنَا مَا جِيت أَشُوفُكِ عَلَى حَسْبٍ مَا طَلَبَتِ مِنْ أُمِّكَ تُخْبِرُنِي .. أَنَا جِيت خَايِفَة مِنْكَ وَعَلَيْكَ
غَرِيبٌ – تَخَافِي مِنِّي أَنَا ياكاذية ?! .. لَيْشْ ?
كَاذِيَّةٍ – أَعْرِفُ أَنَّكَ رَاجِعٌ تَنْتَقِمُ مِنْ أَبُوي .. لَكِنْ أَسْأَلُكَ بِالحُبِّ اِللِّي كَانَ بِينَا .. مَالِكُ شَيْءٌ عِنْدَ أَخُوي مُحَمَّدٌ .. يَكْفِيهُ العَذَابُ وَالحَرَمَانِ وَالقَسْوَةُ اِللِّي شَافهَا مِنْ أَبُوهُ .. وَاِللِّي يَقْرَأُهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي عُيُونِ أَهْلِ البَلَدِ
غَرِيبٌ – لَيْشْ مُصِرَّةٌ أَنَّكِ تُجَرِّحِينِي ياكاذية بَعْدَ كُلٍّ هَذِهِ السِّنِينَ مِنْ الشَّوْقِ وَالاِنْتِظَارِ ?! .. أَنَا مَالِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ شَيْءٌ إِلَّا أَنْتَ وَبَسّ
كَاذِيَّةٍ – حَتَّى مُحَمَّدٌ فَهَذِهِ مَالِكُ عِنْدَهُ شَيْءٌ .. وَحَتَّى أَنَا يَا غَرِيبٌ مَالكِ عِنْدَي شَيْءٌ .. إِنْسِيٌّ مِثْلَ مَا أَنَا نَسِيتُ
غَرِيبٌ – أَنْسَى اِيشْ وَلَا اِيشْ .. أَحَدٌ يَنْسَى قلبة وَهَوَاهُ اِللِّي يَتَنَفَّسُهُ
كَاذِيَّةٍ – أَبُوي بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ .. لَا يُمْكِنُ إِنَّي أَكْمَلُ عَلَيْهِ وَأَقْتُلُهُ .. لَا تَظُنُّ إِنَّي بوَافِقُ عَلَيْكَ كَزَوْجٍ بَعْدَ مَا رَفَضَكَ أَبُوي
غَرِيبٌ – اِيشْ هَذَا اِللِّي أَسْمَعُهُ .. مَعْقُولَةٌ أَنَا اِنْتَظَرْتُ كُلَّ هَذِهِ السِّنِينَ عَلَشَانْ تِجِي اليَوْمَ ياكاذية وَتَسْمَعِينِي هَذَا الكَلَامُ ؟!! .. أَنْتِ حُلْمِي الوَحِيدُ بِهَذِهِ الدُّنْيَا
كَاذِيَّةٍ – حُلْمُكَ تَنَازَلْتَ عَنْهُ لِمَا تَرَكْتَهُ وَرَاءَ ظَهَرَكِ وَرَحَلْتَ لِلغُرْبَةِ .. الهَزِيمَةُ وَالاِنْهِزَامُ كَانَ عُنْوَانَ هِجْرَانِكَ وَضَعَّفَكِ .. نَسِيَتْ وَقْتَهَا أَنَّهُ فِيهُ إِنْسَانُهُ قَدَّمْتَ قُرْبَانٍ لِشَخْصٍ مَا بَيْنَهَا وَبِيَنِهِ إِلَّا جَسَدٍ .. أَنْتِ قَتَلْتَ الرُّوحَ اِللِّي بَاقِيهِ فَيْني يَاغَرِيبٌ .. وَالحِين جَايْ تُرِيدُ تَفَتُّحَ الجُرْحِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَتُحَيِّي رُوح مَاتَتْ مَعَ رَحِيلِكَ .. لَيْشْ ؟!!
غَرِيبٌ – غَصْبًا مِنِّي ياكاذية .. أَنَا حَسَّيْت نَفْسِي بِمَوْتٍ .. مَا قَدَرْتُ أَتَنَفَّسُ وَأَشَوِّف النَّاسَ فِي السِّيرَةِ والجية تُنَاظِرُنِي وَتَنْسِفُنِي بِعُيُونِهَا .. وَكُنْتُ أَعْرِفُ إِذَا ظليت بِالبَلَدِ رَاح أَظَلُّ عَبْدَ لأبوك وَمِنْ بَعْدِ أَبُوكَ لَكَ .. كَيْفَ تَتَزَوَّجِي عَبْدَ مِنْ عَبِيدِكَ ياكاذية ? كَيْفَ ?
كَاذِيَّةٍ – وأنت مفكر بفلوسك تحررت من العبودية !! .. لَيْشْ لَمَّا حَبَّيْتنِي وَحَبَّيْتكَ مَا سَأَلَتْ نَفْسَكَ هَذِهِ السُّؤَالُ مِنْ الأَوَّلِ .. لَيْشْ خَلَّيْتَنِي أَحِبَّكِ لَيْشْ ? .. اِللِّي بَيَّنَا دَفْنَهُ المَاضِيَ وَدَفَنَتْهُ الغُرْبَةُ .. مَعَ السَلَامَةِ يَا غَرِيبٌ (وَتَذْهَبُ دُونَ تَوَقُّفٍ وَدُونَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى خَلْفِهَا).
غَرِيبٌ – (يَصْرُخُ عَلَيْهَا) .. لَا ياكاذية لَا .. أَعْطِينِي فُرْصَةً أُثْبِتُ لَكَ صِدْقَ نَوَايَاي .. أَعْطِينِي فُرْصَةً أُثْبِتُ لَكَ إِنَّي أَنَا غَرِيبٌ مَا أَقَلُّ مِنْ أَيِّ شَيْخٍ حَتَّى لَوْ كَان أَبُوكَ
لَكُنَّ كَأَذِيَّةٍ تُغَادِرُ السَّاحِلَ وَتُنْسِلُ بَيْنَ المَنَازِلِ حَتَّى تَخْتَفِيَ دون أَنْ تَنْظُرَ وَلَوْ لِمَرَّةٍ لِلخَلْفِ نَاحِيَةٌ غَرِيبٌ , وَيَظَلُّ غَرِيبٌ وَاقِفًا مُنْهَارًا حَتَّى يَنْزِلُ بِرُكْبَتَيْهِ عَلَى السَّاحِلِ لِيُلَامِسَ مَوَّجَ البَحْرُ وَهُوَ يَبْكِي مَنْحِي الرَّأْسِ وَدُمُوعِهِ المَالِحَةُ تَسْقُطُ عَلَى مِيَاهِ البَحْرِ لَتَزِيدُهَا مُلُوحَةً وَمَرَارَةً .
عَرِيشٍ عَلَى السَّاحِلِ عِبَارَةٌ عَنْ اِسْتِرَاحَةٍ لِلصَّيَّادِينَ , عَلَّقَ عَلَيْهِ قِنْدِيلَانِ وَفَتَحَتْهُ مُوَجِّهَةً لِلبَحْرِ , كَمَا إِنْ هُنَاكَ العَدِيدُ مِنْ القَوَارِبِ الصَّغِيرَةَ الَّتِي تَتَوَاجَدُ أَمَامَ العَرِيشِ , مِنْ بَعِيدٍ يُشَاهِدُ غَرِيبٌ قُدُومَ عَلَيَّ وَهُوَ يَمْشِي نَحْوَ العَرِيشِ , اِنْتَظَرَ غَرِيبَ وُصُولٍ عَلَيَّ لِلعَرِيشِ بَيْنَمَا ظِلٌّ هُوَ يُرَاقِبُهُ حَتَّى دَخْلٍ , اِغْتَرَفَ غَرِيبُ غُرْفَةِ مَاءٍ مِنْ البَحْرِ وَرَمَاهَا عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ تُوَجِّهُ نَحْوَ العَرِيشِ لملاقات عَلَيَّ حَسَبَ الاِتِّفَاقِ , وَصَلَ غَرِيبٌ إِلَى العَرِيشِ وَسَلَّمَ عَلَى عَلِيٍّ وَدَارَ بَيْنَهُمَا حِوَارٌ طَوِيلٌ خَرَجَ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَهِمْ عَلَى تَبَادُلِ البَضَائِعِ , كَمَا أَخْبَرَ غَرِيبٌ بِأَنَّ مُحَمَّدٌ اِبْنُ عَمَّةٍ الشَّيْخُ شَرِيكٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ , وَهُنَا اِرْتَاحَ عَلَي كَثِيرًا وَقَالَ فِي مُخَيِّلَتِهِ , هَذَا يَوْمَ سَعْدِي حَتَّى أَسْتَطِيعَ أَنْ أَرْمِيَ عُصْفُورَيْنِ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ وَأَصْبَحَ أَنَا شَيْخُ البِلَادِ بَعْدَ تَدْمِيرٍ مُحَمَّدٌ كَمَا دَمَّرْتُ أَبَاهُ , بَيْنَمَا قَالَ غَرِيبٌ فِي خُلْدِهِ سَوْفَ تَكَوُّنٌ أَنْتِ البَابُ الَّذِي أُعَبِّرُ بِهِ إِلَى قَلَّبَ الشَّيْخُ وَاِبْنُهُ مُحَمَّدٌ فِي المُبَارَكَةِ عَلَى زَوَاجِي مَنِّ كَاذِيَّةٍ بَعْدَ أَنْ أَرْجِعَ لَهُمَا مَالَهُمَا الَّذِي سِرْقَتُهُ مَنِّهُمْ , هَكَذَا كَانَ يَرْسُمُ الاِثْنَيْنَ كِلَا حَسَبَ مَا يُمْلِيهُ عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ وَمَا يُخَطِّطُ لَهُ عَقْلَهُ , الأَوَّلُ طَمِّعَانِّ فِي زِيَادَةِ مَالِهِ وَنُفُوذِهِ وَالثَّانِي طَمِّعَانِّ فِي رِضَى الشَّيْخِ وَاِبْنِهِ لِيَفُوزَ بِقَلْبٍ كَاذِيَّةِ الَّتِي أَحَبَّهَا سِنِينَ طَوِيلَةٍ وَذَاقَ العَذَابَ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا .
فِي مَنْزِلِ الشَّيْخِ يَقْتَرِبُ مُحَمَّدٌ مِنْ أُخْتِهِ كَاذِيَّةٍ مِنْ الخَلْفِ وَهِيَ تَبْكِي مُسْتَلْقِيَةً عَلَى بَطْنِهَا فِي الفَنَاءِ الدَّاخِلِيُّ لِلمَنْزِلِ (الدهريز) , سَمْعُ بُكَائِهَا لَمَّا اِقْتَرَبَ مِنْهَا كَثِيرًا , هِيَ غَيْرُ مُدْرَكَةٍ لِوُجُودِهِ , جَلَسَ بِالقُرْبِ مِنْهَا وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهَا , فَقَفَزْتُ مَذْعُورَةٌ وَعِنْدَمَا أَدْرَكْتُ أَنَّهُ أَخُوهَا مُحَمَّدٌ اِرْتَمَتْ فِي صَدْرِهِ وَهِيَ تَحْتَضِنُهُ بِقُوَّةٍ فَضَمَّهَا هُوَ الأُخُرُ إِلَيْهُ وَأَخَذَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الأُخْرَى دُمُوعٍ عَيِّنِيهَا المُنْهَمِرَةُ وَهُوَ يَقُولُ مُحَمَّدً – مَالِكُ ياكاذية اِيشْ يَبْكِيكَ يَا أُخْتِي
كَاذِيَّةٍ – (دُونَ أَنْ تُجِيبَهُ بِشَيْءٍ) وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ يَحْتَضِنُ أُخْتَهُ كَاذِيَّةٍ حَتَّى نَامَتْ عَلَى صَدَّرَهُ وَنَامَ هُوَ الأُخُرُ جَالَسَا , مَا أَجْمَلُ المَشْهَدِ الَّذِي تَتَجَلَّى فِيهُ الأُخُوَّةُ إِلَى هَذَا المَفْهُومُ وَالإِحْسَاسُ وَالتَّضْحِيَةُ العَمِيقَةُ .
بَدَأَتْ التَّعَامُلَاتُ التِّجَارِيَّةُ بَيْنَ غَرِيبٍ وَعَلَيَّ اِبْنُ عَمِّ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ تَأْخُذُ أَكْثَرَ اِتِّسَاعًا مِنْ ذِي قَبْلَ , وَبَدَأَ عَلِيٌّ فِي التَّخْطِيطِ لِلقَضَاءِ عَلَى غَرِيبٍ وَسَلْبُهِ مَالَهُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي لَا تَجْعَلُهُ عُرْضَةَ للقوانيين وَالأَنْظِمَةَ الشَّرْعِيَّةَ , لَكِنْ بِالمُقَابِلِ كَانَ غَرِيبٌ يَنْسُجُ خُيُوطَ شباكة لَ عَلَيَّ دُونَ أَنْ يَعِيَ عَلَي لِمَاذَا وَافَقَ غَرِيبٌ بِسُرْعَةٍ عَلَى مُشَارَكَتِهِ التَّعَاوُنَ فِي التَّسْلِيمِ وَالبَيْعِ بَيْنَ الوِكَالَتَيْنِ , بَدَأَ غَرِيبٌ بِمُمَارَسَةِ اللُّعْبَةِ فِي ضَرَبَ بِضَاعَةً عَلَيَّ بِالسُّوقِ , وَأَصْبَحَ المُسْتَهْلِكُ لا يَقْبَلُ عَلَى شِرَاءِ البِضَاعَةِ مِنْ وِكَالَةٍ عَلَيَّ رَغْمَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهَا مِنْ غَرِيبٍ , وَهَكَذَا أَصْبَحَتْ البِضَاعَةُ تَتَرَاكَمُ فِي مَخَازِنَ عَلَيَّ وَأَمْسَى مَجْبُورًا عَلَى بَيْعِهَا بِنِصْفِ القِيمَةِ لِلتَّاجِرِ غَرِيبٍ , وَهُنَا بَدَأَ غَرِيبٌ يُسَاوِمُ علي عَلَى شِرَاءِ البِضَاعَةِ بِرُبْعِ السِّعْرِ , كَمَا أَطْلَعَ غَرِيبٌ عَلَى جَمِيعِ بَضَائِعِ علي وَكَشَفَ جَمِيعُ تَعَامُلَاتِهُ التِّجَارِيَّةَ مَعَ التُّجَّارِ الَّذِين يَقُومُ عَلَيَّ بِتَغْذِيَةِ مَحَلَّاتِهِمْ وَشَرِكَاتِهِمْ التِّجَارِيَّةَ , بَدَأَ غَرِيبٌ وَالشَّيْخُ مُحَمَّدً فِي ضَمٍّ جَمِيعُ التُّجَّارِ بِالتَّعَامُلِ مَعَهُمْ وَفْقَ تَخْفِيضٍ عَلَى جَمِيعُ السِّلَعِ الَّتِي يَحْتَاجُونَهَا لِلسُّوقِ , وَهُنَا بَدَأَتْ تِجَارَةٌ علي تَفَقُّدٍ تَوَازُنَهَا بِسَبَبِ الخَسَائِرِ الَّتِي بَدَأَتْ تَنْهَالُ عَلَيْهِ يَوْمَا بُعْدٍ أُخُرٌ , أَيْقَنَ عَلِيٌّ بِأَنَّهُ سَوْفَ يُخَسِّرُ كُلَّ شَيْءٍ فِي بِضْعَةِ أَيَّامٍ إِذَا مَا تُدَارِكِ هَذَا الوَضْعُ , فَطَرَحَ عَلَيْهِ غَرِيبُ فِكْرَةِ الإستدانه مِنْهُ لِإِحْيَاءِ تِجَارَتِهِ أَوْ لِلبَدْءِ بِمَشْرُوعٍ أُخُرٌ , عَرْضُ غَرِيبٍ عَلَى علي مَبْلَغِ خَمْسَةِ مِئَةٌ أَلْفِ رِيَالٍ عُمَانِيٍّ مُقَابِلَ أَنْ يَكْتُبَ علي عَلَى نَفْسِهُ إِقْرَارٌ بِكُلِّ مُمْتَلَكَاتِهِ لَ غَرِيبٌ فِي حَالَةٍ لَمْ يَرْجِعْ المَبْلَغُ فِي غُضُونِ مُضِيِّ سَنَةٍ مِنْ الإستدانه , وَافَقَ علي عَلَى كُلِّ الشُّرُوطِ الَّتِي أَرَادَهَا غَرِيبٌ وَكَتَبَ الإِقْرَارُ فِي المَكَاتِبِ الحُكُومِيَّةِ كَصَكٍّ شَرِّعِي ثَابِتَ مَعَ شُهُودٍ مِنْ التُّجَّارِ المُنَافِسِينَ لَهُ فِي السُّوقِ , غُرُورٌ وَحِقْدٌ وَطُمُوحَ عَلَيَّ الجَائِعَ نَحْوَ المَالِ عُمْيٌ عَيِّنِيهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ .
الأَيَّامُ تَمْضِي وَالشُّهُورُ تِبَاعًا وَعَلَيَّ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ يُخَسِّرُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ تِجَارَةٍ فِي البيع وَالشِّرَاءِ , هُنَا أَيْقَنَ عَلِيٌّ بِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا غَيْرَ طَبِيعِيٍّ يَحْصُلُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودُ قَبْلَ , لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ , فَعَرَضَ عَلَى غَرِيبِ مُسَاعَدَتِهِ , لَكِنْ غَرِيبٌ رَفَضَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ أَنَّهُ مُسْتَدِينٌ مِنْهُ مَبْلَغٌ كَبِيرٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَهُ , وَأَكْثَرَ مِنْ المُسَاعَدَةِ السَّابِقَةُ لَا يَسْتَطِيعُ , عِلْمًا أَنَّ مَا يمتلكة عَلِيٌّ مِنْ بُيُوتٍ وَمَخَازِنَ وَشِرْكَاتٍ يَفُوقُ المَبْلَغُ الَّذِي أقرضة إِيَّاهُ غَرِيبٌ ، أَصْبَحَ علي مَطَالِبَ بِسَدَادِ الكَثِيرِ مِنْ الدُّيُونِ المُتَأَخِّرَةِ وَالَّتِي تَرَاكَمْتُ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ خسائرة المُسْتَمِرَّةُ فِي التِّجَارَةِ , وَبَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لَمْ يَتَبَقَّى لَ علي مِنْ شَيْءٍ لِيُتَاجِرَ بِهِ أَوْ فِيهُ , فَحَازَ غَرِيبٌ بِوَاقِعِ الصَّكِّ الشَّرْعِيِّ وَبِالقَانُونِ عَلَى كُلٍّ مَا يَمْلِكُ عَلَيَّ .
أَرْجَعَ غَرِيبُ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ اِغْتَصَبَهُ علي مَنْ عَمُّهُ الشَّيْخِ إِلَى اِبْنِهُ مُحَمَّدٌ , بَدَأَ مُحَمَّدٌ فِي النُّهُوضِ بِالشِّرْكَاتِ وَالعَقَارَاتِ وَالمَحَلَّاتِ وَتَشْغِيلَ المَخَازِنِ بِالتَّعَاوُنِ مَعَ غَرِيبٍ , بَعْدَ مُضِيِّ سِتِّهِ أَشْهَرَ رَجَعْتَ المِيَاهَ إِلَى مَجَارِيهَا , وَأَصْبَحَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بِفَضْلٍ غَرِيبٍ تَاجِرًا وَشَيْخًا يُشَارُّ لَهُ بِالبَنَانِ , عَلِمْتُ كَاذِيَّةٍ بِمَوْقِفِ غَرِيبٍ البُطُولِيِّ فِي إِرْجَاعٍ مَا سَلَبَهُ اِبْنُ عَمِّهَا علي مِنْ أَبِيهَا بِالحِيلَةِ وَالخُدْعَةِ الَّتِي دُبْرُهَا غَرِيبٌ , لَكِنَّهَا أَصَرَّتْ عَلَى مَوْقِفِهَا فِي عَدَمِ رُؤْيَةٍ غَرِيبٌ مَرَّةً أُخْرَى , لَقَدْ كَانَتْ تَخَافُ مِنْ النِّدَاءَاتِ الَّتِي تَأْتِي مِنْ قَلْبِهَا أَنْ تُمَرِّغَ وَجْهٌ أَبَاهَا وَأَخَاهَا فِي التُّرَابُ كَمَا فَعِلَّةٌ بِهِمَا اِبْنُ عَمِّهَا عَلَيَّ مِنْ قَبْلُ , تُقُدِّمَ غَرِيبٌ بِكُلِّ ثِقَةٍ لِخَطَبَةٍ كَاذِيَّةٍ مِنْ أَخِيهَا مُحَمَّدٍ , لَكِنَّ مُحَمَّدٌ رَدّ عَلَى غَرِيبٍ رَدَّا لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُهُ إِطْلَاقًا بَعْدَ أُخُوَّتِهِ لَهُ وَصَنِيعُهِ مَعَهُ , فَكَانَ رَدُّ الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ قَاسِيًا عَلَى غَرِيبِ
الشَّيْخِ مُحَمَّدٌ – وَأَنْتِ تَرْضَاهَا لِنَّا البَهْدَلَةُ مَرَّةً ثَانِيَةً يَا أَخُوي غَرِيبٌ .. تَرْضَى النَّاسَ تَقُولُ الشَّيْخَ مُحَمَّدٌ زَوِّجْ أُخْتَهُ حَالِ غَرِيبٍ
غَرِيبٌ – وَاِيشْ فَيْني أَنَا مَنْ عَيْبٌ أَوْ قُصُورٌ ?!!
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ – أَنْتِ وَالنُّعْمُ الرِّجَالُ يَا غَرِيبٌ .. حَشَا لِلهِ مَا فِيكَ عَيْبٌ وَلَا تنعاب .. لَكِنْ المجتمع وَالنَّاسَ اِللِّي يَعِيشُوا حَوْلَيْنَا مَا يَرْحَمُوا .. وَأَنْتَ عَارِفٌ مَا يَحْتَاجُ أفصص الثَّوْمَ
غَرِيبٌ – أَخَّرَ شَيْءٌ كُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ مِنْكَ يامحمد .. أَنَا إِنْسَانٌ حُرٌّ وَلَا نَسِيتَ ?!!
مُحَمَّدٌ – حَتَّى لَوْ كُنْت عَبْدٌ وَمَا أَعْتَقَكَ أَبُوي أَوْ أَنَا فَأَنْتَ حَرٌّ طَلِيقٌ .. يَاغَرِيبٌ يَاأَخُوي أَنْتَ اِللِّي رَدَّيْت لِنَّا اِعْتِبَارِنَا بَيْنَ النَّاسِ وَأَهَّلَ البَلَدُ .. بَسّ فِي النِّهَايَةِ مَا يُصَحِّ غَيْرَ الصَّحِيحِ
بَعْدَ هَذِهِ الكَلِمَاتُ الَّتِي نَزَّلَتْ عَلَى غَرِيبٍ كَالصَّاعِقَةِ ذَهَبَ إِلَى أُمَّةٍ وَعَّيْنَاهُ تُدَمِّعَانِ كَطِفْلِ فطمته أُمُّهُ حديثاً , مَسَّحَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ تَقُولُ
سعده – كُنْتُ خَايِفَة مِنْ هَذَا اليَوْمَ .. ياما حَذَّرْتُكِ يَا وَلَدِي يَا غَرِيبٌ .. يَا وَلَدِي مَهْمَا عَلَّتْ مَرَاتِبُكِ وَزَادَتْ فُلُوسَكِ .. وَمَهْمَا لَاقَيْتُ مِنْ اِحْتِرَامٍ وَتَقْدِيرٍ مِنْ النَّاسِ .. تَرَاهُ لَا تَنْسَى أَنَّكَ أَنْتَ غَرِيبٌ .. تَرَاكِ إِذَا نَسِيَتْ .. النَّاسُ مَا تَنْسَى
سَافَرَ غَرِيبٌ عَائِدًا هَذِهِ المَرَّةَ إِلَى الهِنْدِ بِصُحْبَةِ أُمِّهِ تَارِكًا كُلٌّ مَا يَمْلِكُ بِاسْمِ كَاذِيَّةِ اِبْنَةِ الشَّيْخِ فِي ظَرْفٍ قدمة كَهَدِيَّةِ سَلْمَةَ لأخوها مُحَمَّدٌ وَقَالَ لَهُ
غَرِيبٌ – هَذِهِ الأَوْرَاقُ أَمَانَةٌ تُسَلِّمُهَا لكاذية .. وَأَنَا مُسَافِرُ الهِنْدُ فِي رِحْلَةِ تِجَارَةٍ وَرَاجَعَ .. خَلَّى بَالَكَ عَلَى الوِكَالَةِ
لَمْ يَكُنَّ يُعَلِّمُ الشَّيْخَ مُحَمَّدٌ حِينَهَا أَنَّ غَرِيبَ تَرَكَ كُلُّ شَيْءٍ وَسَافَرَ دُونَ نِيَّةٍ فِي الرَّجْعَةِ إِلَى وطنة الَّذِي رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ حَتَّى أَقْرَبُ النَّاسِ بِإِنْسَانِيَّتِهِ .
اِلْتَقَى غَرِيبٌ وَأُمَّةٌ بِاِبْنَةٍ الرَّجُلَ العَجُوزَ بِالهِنْدِ وَعَرَضَ عَلَيْهَا الزَّوَاجَ فَتَزَوُّجًا وَعَاشَا هُنَاكَ وَأَنْجَبَا أَطْفَالٍ , سَمَّى غَرِيبُ اِبْنَتِهِ البِكْرِ كَاذِيَّةٍ وَسَمِّي اِبْنِهُ مُحَمَّدٌ , رَغْمَ كُلِّ النُّكْرَانِ الَّذِي لَاقَاهُ غَرِيبٌ إِلَّا أَنَّهُ سَمَّى اِبْنَتَهُ وَاِبْنَهُ تَيَمَّنَا بِهِمْ لِحُبِّهِ لِهُمْ , وَلَمْ يَسْتَطِعْ نِسْيَانَهَا رَغْمَ الجُرْحِ الغَائِرُ الَّذِي أَحْدَثْتُهُ فِي قَلْبِهِ كَاذِيَّةٍ , حُبُّهَا الخَالِدُ فِي وِجْدَانِهِ , مَاتَتْ سعده بَعْدَ خَمْسَةً أَعُومُ وَدَفَنَهَا فِي الهِنْدِ وَسْطَ الغَابَاتِ وَالظِّلَالِ الوَارِفَةُ , وَظَلَّ غَرِيبُ يقاسي غُرْبَةَ الوَطَنِ طُولَ حَيَاتِهِ , رَغْمَ أَنَّ الجَمِيعَ هُنَاكَ يَعْتَرِفُ بِإِنْسَانِيَّتِهِ وَلَا أَحَدَ يُعَيِّرُهُ بِأَصْلِهِ وَفَصَّلَهُ وَلَوَّنَهُ .

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي