ولد حياة المرن

0
2756

قرر ولدُ حياةِ المرنِ أن يخرجَ بحثَا عنْ العملِ بعد وفاةِ أبيِهِ ، فجر محيان القصم من على راجلة العريش أمام خيمته القابعة على شرفة جبل أسفله وادي عميق ، وتناول سكينه وأدخلها في قطاعتها التي صنعها من وبر الماعز ، ثم التفت على الوتد الأخر من العريش ليتناول شغنته المعتادة التي تحتوي على الودام ، فأيقظ برجليه العاريتين وطيته الثقيلة التي صنعها له أبيه قبل وفاته بشهر من قطعة إطار مركبة وجدها على حافة الطريق أثناء نزوله للبلد ليتبضع ، فحمل الإطار معه ، وبعد أن قطعة إلى عدة أجزاء صنع منه وطية لابنه مخيليف الملقب بولد حياة المرن نسبة إلى قوة بُنيته الجسمانية ، ثم طقم جوانبها بجلد الماشية بعد أن وضعه قرابة شهر في حوض من الصخر ، خلط عليه أوراق وثمار شجرة القرط وكساسير من الملح الجرش ، وبعدها دبغ الجلد حتى أصبح جاهزا بعد تشميسه ، إذا وطية ولد حياة المرن لم تكن سهلة أبدا ، فهي مقارنة بغيرها من وطايا الحضر تفوق الماركات العالمية في الصنع .

اقترب ولد حياة المرن من السمرة وحمل على كتفه الأخر السعن ومشرب الماو الذي ربطه بحبل فتلة من شعر إحدى هوائشه ، ودع السكنة وهو ينزل من الجبل إلى قاع الوادي ليتخذ طريقه نحو القرية تاركا خلفه حماره الأبيض الذي ظل ينعق حتى أختفى ولد حياة المرن من أمام ناظريه ، وهو يسير في الوادي بين الجبال العالية كان يغني ليسلي نفسه وينسى عناء الطريق ، فغنى يقول ( ريعي ريعي ريعي .. رعين وردن رعين وردن ..إلخ ) وكأنه يخاطب أغنامة .

فخيم الهدوء على الجبال فلم يعد يستمع بالمكان سوى صوت ولد حياة المرن وهو يغرد بصوته الأجش ، وصل مخيليف ولد حياة المرن إلى البلاد والتقى بقربوع الذي كان موطنه في السابق نفس الموطن الذي جاء منه مخيليف ولد حياة المرن ، طلب من قربوع أن يأمن له عمل يعيش منه ، فشار عليه قربوع بأن يذهب إلى زوجة الغلق وتسمى عاقبوه ، فهي صاحبة أطيان ومزارع وضواحي ورثتها من أبيها التاجر ولد العسم ، ذهب ولد حياة المرن إلى عاقبوه وأخبرها أنه يبحث عن عمل ، فأوكلت إليه عاقبوه سقاية الضواحي بداع ، فهذه الضواحي لا تسقى إلا ليلا ، وكل من في البلد رفض أن يسقيها لما ناله من فزع ، لكن ولد حياة المرن لا يعرف شيئا عنها أبدا فقبل العمل بهذه الضواحي ، فأسكنته عاقبوه بغرفه مقابل مربط الحمير على أن يهتم بهن في باقي الأيام من طعام وشراب وغيره ، واتفقت معه أن تعطيه مبلغ لا بأس به من المال ، وفي حالة أثبت وجوده واستمر بسقاية الضواحي سوف تزيده في المبلغ ، فرح ولد حياة المرن كثيرا ، فلم يظن للحظة أنه سوف يحصل على عمل بهذه السرعة الكبيرة ، أخذ مخيليف يعمل بكل إخلاص وتفاني في العناية بمربط الحمير ، حتى جاء يوم سقي بداع مساءا فتوجه إلى الضواحي التي أخبرته عنها عاقبوه زوجة الغلق حامل بيده بجلي بو حجرين ، يوبص أمامه مخافة أن يدوس على ثعبان أو أفعى رقطاء تقضي على حياته ، لم يكن مخيليف ولد حياة المرن يخاف الظلمة أبدا ، فقد عايش في الجبال سنين يتنقل بين شراجها وسهولها ووديانها دون خوف

بدأ ولد حياة المرن يسقي الضواحي جيل جيل وهو يغني ليرمس على نفسه من السهاد ، فإذا به يسمع حجارة قوية تتدحرج قادمة من رابية الجبل أعلى الفلج نحو النخيل ، أرتاح مخيليف في بداية الأمر كثيرا فهو يسمع كل شيء ولا يرى شيئا أبدا رغم تساقط البسر والخلال من أعذاق النخل إلا أنه لا يصل إلى الأرض شيئا ولا يرى حجارة أبدا ، فضحك ولد حياة المرن بصوت هادر توقفت الحجارة من التساقط على النخيل وساد الهدوء المكان إلا من ضحكة ولد حياة المرن الذي يتقلب من كثرة الضحك في السواقي وجيل النخل ، وما إن فرغ من الضحك نادا بأعلى صوته إلى مصدر الحجارة قائلا .. زيدني جبل غيرها بين هدوب عيوني أررررر ، ولكن لم يجيبه أحد ولم يحدث شيئا أخر في تلك الليل أبدا حتى أنهى ولد حياة المرن سقي كل الضواحي وصلى الفجر جماعة في مصلى الساطعي، وفي ظهر نفس اليوم جاءت عاقبوه لغرفة ولد حياة المرن لتتأكد أنه بخير وطرقت الباب ، فخرج لها وسلم عليها ، فنظرت إليه وهي متعجبة من سكوته دون حديث بعد التحية والسلام ، فقالت له كيف سقيت الضواحي كلها ، فقال لها .. كلها طال عمرك وإذا تبيي لها سقي أسقيها اليوم مرة ، فضحكة عاقبوه وفهمت مكر ودهاء ولد حياة المرن ، فقالت له .. يكفيها سقي ليلة أمس ، وذهبت وهي مستغربة من أمره ، فلم يخبرها عن أي شيء ولم يكن حتى مرعوب أو خائف من شيء ، فقالت في نفسها ربما لم يحدث معه شيء في الليلة الماضية وقد يحدث في الليالي القادمة ، فأستمر الوضع على ولد حياة المرن كلما سقى الضواحي سمع أصوات وصراخ وأحيانا عويل ، كما شاهد جماعة يمرون أمامه على الفلج وهم يحملون جنازة فذهب في أثرهم وهو يردد إنا لله وإنا إليه راجعون ، فتختفي الجماعة والجنازة ، فيرجع يغني ويسلي على نفسه ، لم يفلح معه كل أساليب التخويف الذي كان جن المكان يخوفون به غيره ، حتى خرجت له يوم ما جنية في شكل امرأة ذات حسن وجمال ، وجلست على ساقية الفلج تنظر إليه وهو جالس على سيوان الجلبة ينظر لها فضحكت فضحك ، ثم قالت له .. موه تقول في جمالي ، قال لها .. جمالك زائل بزوال شبابك ، فحمرت عيناها وكأنها شهاب نار ملتهب ، فضحك عليها ثم وقف في مكانه ورفع دشداشته ووزاره وأخرج لها عوده فختفت ولم تعد في تلك الليلة ، ومرت الأيام والليالي ولم يستطع الجن التغلب على ولد حياة المرن أبدا .

حتى بدأ أهل القرية ينسجون عنه حكايات كثيرة ، فمنهم من قال إنه مخاوي الجن ، ومنهم من قال إنه ساحر ، ومنهم من قال إنه مسترب ، إلا عاقبوه فقد كانت تنقده مبالغ على أستمراره في سقي ضواحيها ، وتعلم إنه لا يملك شيئا مما يقولون عنه الناس في القرية ، فقالت له .. ما سرك ؟!!

قال سري خوف الله ولا أحدا سواه ، فزوجته عاقبوه ابنتها الوحيدة ، وبعد موت عاقبوه ورثت البنت كل شيء وأصبح ولد حياة المرن أغنى وأشجع رجل عرفته القرية والجبل .

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي