قراءة في ملف التعليم “الشهادات العلمية بين التنوير والتزوير

0
1998

كعادة المجتمع العربي الذي تربى أفراده على مبدأ رد الفعل انتفض الناس بعد تقرير إحدى الصحف عن اكتشاف قضايا تزوير في الشهادات العلمية الجامعية بمراحلها الثلاث (بكالوريوس وماجستير ودكتوراه) شمل عددا كبيراً من الأفراد في دول الخليج كان للعمانيين حظ وافر ونصيب كبير .

وأنا أعلم يقيناً أن هذا الانفعال الشديد الذي أبداه أفراد المجتمعات العربية على وجه العموم و الخليجية على وجه الخصوص وأشعلوا نيران غضبهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ،هذا الغضب الشديد سيسكت والانفعال سيهدأ تدريجيا ثم ينتهي لأنه أصبح سلوكاً معتاداً وسمة شبه ثابتة في نمط شخصية الفرد العربي “الاشتعال السريع والانطفاء السريع ” والشواهد على ذلك كثيرة عبر التاريخ العربي المعاصر.

على كل حال أمتلك رؤيتي الخاصة في قراءة الأحداث ومن هنا يمكن أن أقرأ ذلك الحدث على النحو الآتي:
أولا ً: قضايا تزوير الشهادات العلمية تعد من القضايا العالمية لا تكاد تخلو منها دولة ما وهذا راجع لأسباب كثير منها غياب الوعي القيمي والأخلاقي وضعف الرقابة الذاتية (الضمير) وضعف مستوى الرقابة الأكاديمية وغياب نظام “المسؤولية والمحاسبية” في معالجة الخلل يضاف إلى ذلك تفشي ظاهرة الجهل والفقر في المجتمعات العربية نتيجة النظام الاقتصادي البائس الذي أثقل كاهل المؤسسات والشعوب وبالتالي أثر سلباً على نوعية التعليم ومستواه.

وفي الوقت نفسه فإنني أثني على جهود العاملين في دائرتي البعثات الخارجية ومعادلة المؤهلات العلمية في وزارة التعليم العالي على جهودهم المستمرة في متابعة الدارسين والتثبت من صحة البيانات والشهادات الصادرة من المؤسسات الأكاديمية خارج السلطنة ولهم دور ملموس في التعامل مع المخالفين ضمن اللوائح والقوانين المنصوص عليها.
ثانياً : قضايا التزوير في الشهادات العلمية ليس وليد اللحظة بل هو قديم وممارس منذ سنين سواء تم إثبات ذلك بالأدلة المادية الملموسة أولم يتم.

ولا أدري لماذا تم إثارة هذا الموضوع في هذا التوقيت بالذات إلا إن كان نوعاً من الإلهاء تمهيداً لحدوث قضايا أكثر خطراً. ومن خلال تجربتي الحياتية في التعليم الجامعي الذي يقرب من ربع قرن التقيت بعدد كبير ممن يسبق أسماءهم حرف “د” لكنهم لا صلة لهم بالعمل الأكاديمي لا شكلاً ولا مضموناً .ومن المفارقات العجيبة أن الأساتذة حريصون على وضع حرف “د” مع أسمائهم بعكس الطلاب الذين يكرهون هذا الحرف ويحرصون على عدم جوده في شهاداتهم فهو حرف محبوب ومكروه في آن واحد داخل المؤسسة الأكاديمية الواحدة و”الدال” عموما غذاء مفيد وهو وجبة أساسية لها طعم خاص لبعضهم.
ثالثاً : تعتمد التربية في مجتمعنا العربي على المحسوس أكثر من المجرد فالتعليم يرتكز في التقييم على التقديرات الكمية دون النوعية مع أن وزارة التربية تركت نظام الدرجات واستبدلته بنظام التقديرات ( أ – ب -ج …) إلا أن العقل الجمعي يصر على إرجاعها إلى التقدير الكمي لكي يظهروا الأوائل على مستوى السلطنة

لذلك يسعى الفرد إلى الحصول على أعلى الدرجات بغض النظر عن المعرفة فالحاصل على الدرجة 90 مثلاً أفضل من الحاصل على الدرجة 80 مع أن معظم الدراسات التربوية والنفسية تؤكد أن الدرجة الكمية ليست مؤشراً حقيقياً كافياً في الحكم على الأداء الفعلي للفرد فمن حصل على الدرجة 95 مثلاً لا يمكن الجزم بقدرته على دراسة الطب أو الهندسة أو الاقتصاد ونظرية الذكاءات المتعددة تؤكد على هذا الاتجاه إلا أن سياسة التعليم لدينا لا تملك إلا نظام التقدير الكمي في التقييم .من هنا يبذل الأفراد جهدهم للحصول على شهادات بمعدلات مرتفعة من أجل الحصول على وظيفة أو الترقية إلى وظيفة حتى لو اتخذ طرقاً ملتوية في سبيل الحصول على تلك الشهادة لأن التنافس في التوظيف لا يعتمد على قياس القدرات وإنما على اختبارات عامة وأشياء أخرى ليس من بينها الاختبارت النوعية.
رابعاً: اللقب العلمي حق لصاحبه يتم منحه إياه فقاً للشروط والأعراف الأكاديمية ولا يجوز انتزاعه منه إلا بحقه إلا أن الشهادة العلمية لا تعني العلم وإنما تعني تدريب على مهارات البحث فهي الخطوة الأولى في طريق البحث العلمي القائم على مهارات القراءة والبحث والتقصي والتحليل والمناقشة للوصول إلى نتائج صحيحة وفق منهج علمي فمن كان هدفه العلم فإن مهارة البحث العلمي تتأصل وتتعمق باستمراره في البحث بعد الحصول على الشهادة وأما من كان هدفه الشهادة والحصول على اللقب العلمي فليهنأ بتلك الورقة ذات الأختام .والحقيقة أن من ينظر للواقع نظرة تأملية سيجد أن الباحثين الأكاديميين لا يتجاوزون 30-40% مع حسن الظن والتفاؤل والبقية حملة شهادات لا أكثر. والمشكلة لا تقف عند هذا فحسب بل إن المشكلة الأكبر تكمن في أن المؤسسات الأكاديمية تخضع تحت إشراف جهات إدارية عديدة وبالتالي فإن حملة تلك الشهادات هم من يشرفون على الأساتذة الأكاديميين بل إن الكثير منهم ينتقل للعمل في المؤسسات الأكاديمية لمجرد أنه حصل اللقب ” د “… يا قلب لاتحزن.
خامساً: الفساد الذي يسري في النظام الأكاديمي لم ينبت من فراغ بل له جذور تبدأ من النظام التعليمي الذي أساسه المدرسة والنظام الاجتماعي الذي أساسه البيت فجميع التقارير والمشاريع المصاحبة للمنهج التي يقررها المعلم للطلاب يقوم ولي الأمر بإحضارها جاهزة من محلات بيع المواد القرطاسية التي يطلق عليها مكتبة وهذا خطأ كبير فالمكتبة تختلف نصاً وفصاً عن محلات بيع المستلزمات المدرسية وأتمنى أن تقوم وزارة التجارة والصناعة بتعديل مسمى هذا النشاط فالمكتبة لها شروطها ومواصفاتها .على كل حال عندما يقوم ولي الأمر بإحضار المشاريع والأبحاث الطلابية جاهزة ويقوم الطالب بتسليمها للمعلم ويقوم المعلم بإعطاء الطالب درجات مقابل ذلك الجهد وجميع الأطراف ( ولي الأمر والمعلم والطالب والتاجر والمدير) يعرفون تماماً أن الطالب لم يقم بذلك الانجاز وأخذ درجات مقابل اللاعمل، ألا يعد ذلك تواطئاً على الكذب وترسيخا للقيم السلبية” الاحتيال – النصب – التزوير – الغش – التهاون – عدم احترام المسؤولية”؟!!.

لماذا نحاسب طالباً في المرحلة الجامعية على تزوير أوراقه أو شهاداته ونحن قد ربيناه مدة اثنتي عشرة سنة على ذلك؟وكيف نلوم طالباً في مرحلة الماجستير أوالدكتوراه حينما يلجأ إلى شخص أو مكتب يعد له أطروحة الدكتوراه لكي يقدمها جاهزة للجنة المناقشة دون أن يكتب فيها حرفاً واحداً ألم يمارس ذلك حين كان طالباً في المدرسة وبتشجيع من البيت والمدرسة؟!! أم كيف نلوم أستاذاً جامعياً إذا مارس السرقة العلمية أو الانتحال الأكاديمي وقد تربى على تلك القيم السلبية منذ مراحل التعليم الأولى !!.

تساؤلاتي لا تحمل تبريراً للخطأ ولا سكوتاً عن الباطل ولا رضا بالفساد ولكنني أدعو إلى النظرفي جذور المشكلة قبل فروعها و معالجة مصادرها قبل نتيجتها فالنتائج لن تنتهي مادام المصدر مستمراً.

د.هاشل بن سعد الغافري