٢٣ يوليو المجيد من زاوية أخرى..

0
1239

ربما مما تحتاجه الأمم في أيام بهجتها مع احتفاءها بمنجزها أن تكشف أيضا عما يشكل خطرا عليه وعلى استقراره مما قد يعده حاملوا لواء “لكل مقام مقال” بتعاطيه خروجا عن السياق، الا أن هناك زاعمين آخرين لا يُعْيِيهم إثباتُ أنه من مقامات المراجعة والنقد مقامات الاحتفاء بقيام الدول وبدايتها، بعيدا عن السودوايين ونشطاء ما وراء الشاشات، من باب ربما إظهار الخلل في مقام السعد، ليس لتكدير الاحتفال قدر ما هو لإضعاف الخلل ولفت النظر اليه والعزم على تفتيته بشكل حقيقي وسريع، حتى لا يكونَ عيبٌ، ويكونَ كمالٌ لا كدر فيه..

كلَّ عام وعماننا الغالية في تقدم ورقي وسؤدد، وكل عام وأبناؤها في دعة وأمن وسلام، ومع تحقق الأخيرَين بصورة استثنائية بفضل الله وكرمه، رغما عن المفتونين والمتسلقين، لا سيما خارجيا بسياسة عدم التدخل في شؤون الدول، وداخليا من حيثُ النزعةُ القبلية والمذهبية وانتماء النسيج العُماني الداخلي للدولة المركزية، بسياسة القائد الحكيم سلطان البلاد أمد الله في عمره وآجره، الا أن هذا التحقيق العظيم يبقى رهينة لاستقرار المقيم بعيد المدى (مواطنا وغير مواطن) وأمنه الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي الداخلي، وهو أمر إن لم يعمل على معالجته والتنبه له وإعطائه حقه في الاهتمام والتركيز فإنه القاتل الصامت للأمم، مهددا المنجزات ومهدرا للمكاسب، وذلك أن يكون الفرد ثانويا أو درجة ثانية مقابل المؤسسات، يعيش على هامش التنمية وليس محورها الأوحد، فتتقدمه المؤسسات وتجثم على صدره دون رقيب أو حسيب..

يعد الانسان اولوية في نظر سلطان البلاد وسياسته منذ البدء، الا أن غياب الاهتمام بالمواطن مؤخرا في بعض الجوانب خدمية وغيرها أو حتى قلة الاهتمام به وعدم جعله أمرا محوريا ورئيسا في التنمية لا يجوز المساس به وبحياته الحالية والمستقبلية وصيرورته عبثا في يد المؤسسات، “متنهجلا” ومرددا به بين بيروقراطياتها المضنية يعد لا شك معول هدم لكل شيء قد يكون تحقق على المستوى البعيد، فمن سَتَخْدم تلكم الأحجار والبنايات الفارهة إذا باتت خواء من داخلها بنظمها ومنظومها وكان الانسان ضحيتها، وهل سيشعر الضحية بواجب الذب عنها والانتماء اليها وهي من شفطت قلبه، وحاربته في لقمة عيشه، ونافسته في حياته، ولَم تنصفه في مظلمته على مدى سنين! وهل من غافل عما صنعت فوضى الأمم وحراك الشعوب الاخيرة وما كان اول ما سقط من مؤسسات عامة وخاصة بين يديها وما هو موقفها من المواطن وخدمتها وعلاقتها به قبل انفلاته بعشرات السنين؟!

فنظام الاتصالات مثلا لا يجب أن يمثل خدمة “المطففين” الذين جعل الله لهم الويل في كتابه، باستيفاءهم ما لهم على المستهلك من كيل (اجورهم الشهرية) وبإخسارهم ميزان غيرهم (الخدمات المتردية)، ومؤسسة الحكومة المسؤولة عن تنظيم الاتصالات في السلطنة لا يجب ان تعرف بمبناها الفخم مقابل مبنى المطار القديم فقط بل بعمل فخم يوازيه، والذي يبحث الجميع عنه ولا يجده، وقد رشح عن غيابه ما نراه من اخطبوطية كبرى تلتف حول رقبة المستهلك بخدمة زهيدة، ولَم يستطع المواطن فك هذا الشَرَك والانطلاق وكسر القيد والتحرر، رغم محاولاته عبر المقاطعة والبكاء على المساحات المتاحة استجلابا للرحمة فلم تزدد شركات الاتصالات الا عنجهية وتسلطا، وفحشا في الثراء حتى رابت على شركات عالمية كڤودا ڤون (Vodafone) وبريتش تلكوم ( BT) وزادت عليها في صافي أرباحها النسبية رغم عشرات ملايين الزبائن لتلكم الشركات والخدمات المتطورة لها، ولَم تكن تلك الاريحية والثقة لتكون لولا غياب الرقيب الساهر على جودة الخدمة من أجل المواطن والوطن ونيابة عنها (الوحدة الحكومية المسؤولة)، والاسباب قد تتفاوت بين عدم كفاءة وغياب ضمير.

ان ما مثلناه في قطاع الاتصالات يصدق في قطاعات اخرى لا تقل حساسية بل تزيد في أكثرها كقطاع التعليم الذي مع تقدمه في الآليات والتقنيات في جهة الا انه يتخلف في الاستراتيجيات المعنية بتجويد العملية التعليمية في السلطنة، وربما من ابسط أشكال ذلك هو التنسيق والتكاملية بين أطراف العملية التعليمية وعدم وجود التمثيل الحقيقي لكل طرف اثناء دراسة القرارات لا سيما الاستراتيجية، ليس فقط الشركاء من خارج الوزارة (الآباء المدارس الخاصة مجلس التعليم الخ) بل حتى الشركاء ضمن هيكلتها (الميدان والتخطيط مثلا) فتجد الارتجالية في القرارات ” ترس قفير”، فغياب التشاركية باد، وتعطل الوحدة الحكومية المعنية بالتعليم عن التمسك به والمكافحة بمعناها الحرفي بتجريده وتذليل الصعوبات امام أطرافه لا يخفى والمحكمة الإدارية شاهدة، بل ان الوحدة الحكومية المعنية شديدة للأسف على بعضها ممن ينضوي تحتها مباشرة موظفين أو مدارس وغير ذلك امام أطراف أخرى خارجية كالإسكان والقوى العاملة وغيرهما.

وعلى ذات المنوال يندرج النظام الصحي، الذي يعاني فيه المواطن طبيبا ومريضا شيئا من تردي الجودة، فالاول يطالب بإعطائه شيئا من امر يكفيه عن ما يأخذ نظيره في بلده وخارجه، والآخر ينشد الجودة في الخدمة والتطوير فيها دون عنوة ذهاب للخارج جراء الثقة المفقودة للنظام الصحي بالداخل…

أما السياحة فتأبى الا ان تُبتلى بما ابتليت به القطاعات الاخرى من غياب الاستراتيجيات الخلاقة، ربما لغياب الكفاءات والتي تتصل بشكل مباشر بغياب النظام المؤسسي الضامن لها، فتأخرَّ العائد الوطني السياحي سنوات طويلة، وبات الوطن وأفراده يعانون الامرَّين، فمن تعطلٍ لعائد سياحي يخفف من اثر الانهيار النفطي الوشيك والحال المتذبذب، الى مواطن ومقيم وسائح لا يجد خدمة قضاء “نداء الطبيعة” ليقضي حاجته تحت الأشجار كما كان يفعل الانسان البدائي في العصر الحجري..

لا يقف الامر على القطاع الخدمي فيما يجب الاهتمام به ويمكن تجلي قلق الحليم وخوفه من خلاله، ولكن يتعداه ليشمل الجانب القضائي، فالسلطة القضائية سلطة ضامنة للعدالة، والعدالة ضامنة لاستقرار المجتمعات وأمنها ويعد عنصرا جاذبا لرؤوس الأموال للاستثمار في البلد والإفادة منه للبناء والتعمير وإيجاد فرص العمل للمواطنين حد الاكتفاء، الا أن الجودة في المؤسسة القضائية وفِي أي منظومة عبر عمليات المراقبة والتدقيق المستقل من خارج المؤسسة يُعَدُّ أمرا واجبا، وذلك بخطوات موضوعية وعلمية بسيطة بدءا باستبيان عن مدى رضى الناس عن آلية عمل المؤسسة القضائية مثلا وناتجها، مثنيا بعملية تدقيق من جهة مستقلة على نظامه العام من خلال ثلاثة مستويات أو محاور رئيسة؛ الاول اللوائح والهيكلة المعنية بتحقيق الغاية منه وهو الحكم العادل في أسرع زمن، والثاني عن مدى العمل به وتطبيقه من قبل الدوائر المختلفة والموظفين المخولين في الميدان، والثالث عن مدى استقراره عبر اختبار فعالية التفتيش القضائي الداخلي، ولتحقيق ذلك فلا بد من وجود الرغبة الاولية للمجلس الأعلى للقضاء ومباركته ذلك وإدراكه بشكل حثيث حاجة أي مؤسسة ما الى ضبط جودة خدمتها مهما تباينت مهامها وتخصصاتها، وبدون ذلك فأي سلطة قضائية لن تكون بجودتها ولا بكفاءتها ولن تضمن على المدى البعيد الاستقرار لأوطانها لا أمنيا ولا اقتصاديا ولا حتى اجتماعيا بغياب العدالة وغياب تحقيقها من القائمين عليها.

لن يسع هذا المقالَ المقامُ للتطرق الى كل ما يشغل البال مما أراه خطرا على منجز عظيم قام على رجل حكيم منذ النشأة، ولكني أتَوسم ان يكون فيما مر كفاية للتدليل على خطر المستقبل ان لم يتدارك الحاضر موقفه، وما أكثر الاوفياء من أبناء هذا الوطن العظيم على مختلف الصعد، والامر لا يتطلب الا وظيفة مستقلة وموظفا كفئا ذَا مبادئ في تأدية واجبه وولاءه لوطنه وقائده ومواطنيه اكبر من ولاءه لغيرهم ولو كانت نفسه، ومن أُذُنٍ واعية حكيمة تستفيد من واقع ما ترى لتسييج مستقبلها من خلال إصلاح حاضرها، بعيدا عن خدمات المطففين، أو المترهلة بطونهم، أو المتلبدة عقولهم، والى مواطن حر يعشق وطنه حتى النخاع، ذي كفاءة وحكمة ويقين، والى هيئة ضبط جودة أو تدقيق ومحاسبة مستقلة بمعناها الحرفي، وليس جهة توصية تفتش وترفع التقارير وتنتظر الإشارة بفعل شيء أو بعدمه من جهة عليا فردا أو مؤسسة، دون ان يكون لها فوق رفع هذه التقارير تحريك ملفات مخالفة أو تقديمها للعدالة ان لم تبارك جهة بعينها ذلك، فما يغني البناء والفخامة والأسماء الضخمة للمؤسسات اذا كانت منزوعة الامر والاستقلالية نظاما ولوائح، أو كان القائمون عليها غثاء كغثاء السيل، أو لم يكن هناك نظام تفتيش صارم حازم عادل، يجعل الوطن والحق العام في عينيه، وتنحني الهامات مهما علت إكبارا واجلالا له وتقديرا….

حفظ الله عمان وحفظ قائدها وسخر لها من رجالها ونسائها من يقف سدا منيعا امام القاتل الصامت لجسد الامم، الترهل والتطفيف وإهدار أموال الوطن والنَّاس ظلما، ومتعنا الله بالمنجز والمكتسب، وأعاننا على منع السوء من النخر في كينونتنا العمانية عبر ما قدمنا من مثال، وكل عام والجميع بخير.

عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي